عبده الأسمري
مسكون بالبحر.. مفتون بالحبر.. متيم بالشعر.. موشم بالأدب.. أقام في قلب «التاريخ»، واستقام في قالب «التراث».. كتب للأرض، واستكتب للإنسان؛ فكان «فارس» المكان و»عريس» المحفل..
استفتح مسيرته بتفاصيل الأماكن، وافتتح ثقافته بمفصلات المشاعر؛ ففتح أبواب «اليقين» وبوابات «المعاني» إبداعًا، ينطق شعرًا ويتحدث عبرًا.
أديب مخضرم إذا نطق «المشيب» بالحكمة.. وخطيب معاصر إذا استنطق «العلم» بالتوثيق..
بنى «صرحًا» للثبات أمام نظر الأدباء، وأخر للتحول حول بصر «المثقفين»؛ فاختصرت «نصوصه» مشاهد العيش، وانتصرت «عباراته» لوقائع الحياة..
إنه الأديب والمؤرخ إبراهيم مفتاح أحد أبرز الشعراء المخضرمين ورواد الحركة الأدبية والثقافية في السعودية.
بوجه فرساني حنطي، وسحنة جازانية أصيلة، تتشابه مع أصوله، وتتقاطع مع أسرته، وعينَين واسعتَين، ولحية مستديرة ببيضاء، تشبه قلبه، وتقاسيم ساحلية، تتكامل على جسد «نحيل» أنيق، يرتدي البياض، وملامح تنبع «أدبًا»، وتتقاطر «تأدبًا»، ولغة متجوهرة، تنضخ بالبلاغة، وتنبع بالفصاحة في منصات الشعر، وفي ميادين التكريم، مع لهجة شعبية، تستخرج الحكايات من جوف الشواطئ، ولكْنة فرسانية موسومة بالتراث.. قضى مفتاح من عمره عقودًا وهو يكتب «النصوص» للناس، ويرسم «العتاب» للبحر صائلاً في جزر فرسان، جائلاً في شواطئ جازان، ملهمًا بعبق الطين، مستلهمًا رائحة التراب.. ربانًا لمركب «الوثائق»، سلطانًا لموكب «التوثيق»..
في فرسان وُلد مفتاح، ونشأ بين أب غمر وجدانه بعطايا «النصح»، وأُم عطرت قلبه بنسائم «الدعاء»، وتعتقت روحه بأنفاس البحر، وتشبعت عيناه بنفائس اللؤلؤ المنثور في «مرافئ» الصيادين، وانخطف إلى أصوات «النوارس» وتغريدات «البجع» في إشراقات «الفلاح» ملاحقًا بشقاوته قفزات «الظباء» بين رمال الجزر، منجذبًا إلى نداءات «الرزق» في الصباح، واستدعاء «الغنائم» في المساء.. فركض طفلاً مع أقرانه بين بيت الرفاعي ومسجد النجدي مشدودًا إلى أصوات مد البحر وجزره المتقاطعة مع حكايات الليل ومحكيات المواويل في تجمعات «البسطاء» معتزًا بحفظه لأبيات عنترة والمتنبي وهو في ربيعه «السابع» متأبطًا كشكولاً، يحوي «25» بيتًا شعريًّا، لامست «المعجزة» وهو في الصف الخامس الابتدائي؛ فتناقل «الفرسانيون» المسكونون بالتشجيع المفتونون بالبروز تلك البشرى بقدوم «مشروع بشري عبقري»؛ فظل «زامر» الجزر الذي أطرب الأسماع بالنظم، وأبهر الأفئدة بالتنظيم.
سيرة تعليمية سديدة مجيدة لمفتاح، تغلب فيها على «ثورة الطبيعة»، وهزم معها «ثوران الصعاب»، فدرس في الكتاب، ثم أكمل دراسته بالتعليم حتى تخرج من معهد المعلمين الابتدائي بجازان عام 1381هـ.
عمل معلمًا بمدرسة بيش، ثم المدرسة السعودية بجازان، ثم مدرسة فرسان الابتدائية، وعُيِّن بعدها في سكرتارية تحرير مجلة الفيصل الثقافية، ثم عاد وكيلاً لمدرسة فرسان المتوسطة والثانوية، ومشرفًا على الآثار بالمحافظة. وشارك مفتاح في إحياء أمسيات شعرية في أغلب النوادي الأدبية، وشارك بكتابة قصائده في الصحف والمجلات السعودية والخليجية والعربية. نال مفتاح جائزة الشعر الفصيح في جائزة أبها الثقافية لعام 1417هـ، وجوائز أخرى، ومثّل السعودية في مؤتمرات ومناسبات ثقافية خارجية عدة.
ألّف مفتاح عشرات الكتب ما بين دواوين شعرية وروايات وكتب معرفية وتاريخية واجتماعية، نالت «السبق» بإمضاء كفاءته، واستنارت «القبس» بوميض معرفته.
مارس إبراهيم مفتاح الترحال في ذاكرة الزمن رابطًا «الدال « بالمدلول، مكونًا «ثروة» أدبية مذهلة، و»ثراء» معرفيًّا أخّاذًا.. راسمًا مشهد المقامات والمقومات في مسيرة شكلت «براهين» للأداء، و»دلائل» للنتائج» بسداد «الكتابة» ومداد «المعرفة» وعتاد «المنهجية».
إبراهيم مفتاح مثقف بمرتبة «أديب»، وشاعر برتبة «فارس»، مزج الهيئة بالبيئة، وربط العفوية بالتخطيط، وسبك التحري بالتروي، وأسس في محيط «ثقافته» معارف مفتوحة بمسافات «المؤرخ» ومساقات «المحنك»، وأقام في «مقاماته» سيكولوجية «الشعر» وبيولوجية «الشعور»؛ فكان «عدسة» للسرد، و»عينًا» للرواية، ودليلاً للوصف.. نقل «إرث» الأماكن من الخفاء إلى التجلي مكملاً «عنقود» الحكايات، وصانعًا «عقد» المعاني» في إيقاعات متقنة، وضعت من الكلمة «حياة»، ووظفت العبارة في «سلوك»، وحولت الكتاب إلى «انتصار».
في سجلات «الفخر» وقوائم «الشرف» يتربع اسم «إبراهيم مفتاح» في السطور الأولى قيمة وقامة.. صوتًا وصيتًا.. وجهًا وواجهة؛ ليكون «منهجًا بشريًّا» جديرًا بالدراسة والبحث في ماضٍ تليد، وحاضر سديد، ومستقبل مجيد.