د.عبدالله بن موسى الطاير
في الصراع العربي الإسرائيلي اتخذت أكبر دولة عربية وهي مصر قرارها الإستراتيجي بالجنوح للسلم بتوقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1978م، وبذلك فقد العرب خيار المواجهة المسلحة مع إسرائيل. وبذا توالت المبادرات العربية نحو السلام كخيار إستراتيجي، ومسار وحيد متاح لحل القضية الفلسطينية. قدَّم الملك فهد - رحمه الله- مشروعاً للسلام في القمة العربية في فاس عام 1981م، اعترض عليه الفلسطينيون ومن ورائهم القوميون العرب داخل الحكومات وخارجها وأسقطوا تلك المبادرة، وشتموا السعودية، وطالبوا الدول النفطية بتسليح الجيش السوري، واستمرت المكابرة حتى عام 1993م، حين لحق الفلسطينيون بخيار السلام معترفين بحق إسرائيل في الوجود. وفي محاولات السعودية تنشيط حالة السلام الراكدة تقدَّمت بمبادرة ولي العهد السعودي، حينئذ، الملك عبدالله - رحمه الله- التي تحولت لاحقاً إلى مبادرة سلام عربية في قمة ببيروت، كمرجعية سياسية وحيدة لأي سلام شامل وعادل مع إسرائيل.
الظروف الطبيعية التي ولدت فيها المبادرة العربية للسلام تغيَّرت، وطبيعة التهديدات تبدلت، وأصبحت الدول العربية منذ عام 2011م إما تعمها الفوضى أو مهددة بها، وقليل منها حافظ على استقراره كدول الخليج. لكن هذه الدول ومنها المملكة لم تكن مطمئنة إلى ما يجري في جوارها، فأربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء كانت بحلول عام 2015م خارج القرار الوطني والعربي، ويتم التحكم فيها من طهران وفقاً لتصريحات مسؤوليها.
مؤسف أن تكون إسرائيل في الظرف الراهن هي الأقرب إلى تحالف أمني مع جيرانها لمواجهة خطر داهم يهددهم جميعاً. ليس تحالف أو تعاون من هذا القبيل خياراً عربياً، وإنما ضرورة أملتها الظروف آنفة الذكر. الاتحاد السوفيتي وجد نفسه مضطراً إلى اللحاق بالحلفاء الذين، وقد كانوا عدواً تقليدياً وربما وحيداً لوجوده. أرغمه على هذا الخيار ألمانيا بتخليها عن معاهدة عدم الاعتداء وانقضاضها على حدوده، فلم يكن له من بد من الحرب في صفوف أعدائه في تحالف تكتيكي انتهى بنهاية الخطر النازي. فهل يعيد التاريخ نفسه وتضطر بعض الدول العربية والخليجية للتحالف تكتيكياً مع إسرائيل لمواجهة خطر محدق يستهدفهم جميعاً؟ وهل تحالف مع إسرائيل هدفه الحفاظ على الأمن والمكتسبات الوطنية يعني بالضرورة الاعتراف باحتلالها الأرض الفلسطينية وبخاصة القدس الشريف؟
عندما تُحيق المخاطر بالدول فإنها تعيد تعريف الأعداء بناءً على مصالحها الوطنية والقومية، وتصبح أسيرة لهاجس التهديد الوجودي وسبل التصدي له، وتكون كل الأسلحة والتحالفات مشروعة. علَّمنا التاريخ بأن التحالفات المؤقتة لا تقفز فوق الخلافات المبدئية، وإنما تسمح بترحيل الخلافات التي تستلزم وقتاً وجهداً وحلولاً إستراتيجية إلى ما بعد زوال الخطر المحدق، ثم تعود تلك الخلافات إلى الواجهة، وتستأنف دوائر المفاوضات عملها، وكأنها لم تتوقف يوماً، ويعود كل طرف إلى التمسك بمواقفه السابقة. وهذا هو الذي يحصل مع إسرائيل حالياً.
تفهم إسرائيل طبيعة المرحلة وتحاول تصويرها على أنها تحول في المواقف الرسمية العربية من القضية الفلسطينية، وتعمل بعض الدوائر الأمريكية على استغلال المرحلة للقفز بهذه الفرصة على حدود الضرورة المؤقتة إلى بناء شراكة إستراتيجية عربية إسرائيل تكون أساساً لحل القضية الفلسطينية. منطق الأحداث يقول إن إسرائيل لن تأخذ كل شيء بدون أن تقدِّم تنازلات مؤلمة، وأن أمريكا لن تتمكَّن من تقديم مشروع يتجاوز الإطار السياسي للحل الشامل والعادل للقضية الفلسطينية.
أجندة الفوضى، واقتلاع الأنظمة الحاكمة، ومخاطر التمدد الإمبراطوري لولاية الفقيه، قد تفرض على الدول العربية وبخاصة بعض دول الخليج التحالف التكتيكي مع العدو الإستراتيجي. هكذا تعاون أو تحالف وإن أقيم على مضض قد يكون له جوانب إيجابية يدرك بها الفرقاء أن الأمن الإقليمي كل لا يتجزأ، وتعرف بمقتضاه إسرائيل أن العيش بسلام في جوارها يتطلب حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية.
لنكن واضحين ونعيد ونكرر حتى نقطع الطريق على المناوئين لتعاون الضرورة، بأن الحرب مع إسرائيل لم تعد خياراً عند العرب منذ كامب ديفيد، وأن حق إسرائيل في الوجود معترف به من قبل الفلسطينيين أنفسهم، ولذلك فإن أحداً لا يقطع بالتنازل عن حقهم في أرضهم ودولتهم، ولكن أحداً أيضاً لا يملك سوى طريق الشرعية الدولية التي هي أولاً وأخيراً بيد الدول العظمى ومنها أمريكا.