د.عبد الرحمن الحبيب
يقدر عدد الجياع في العالم بنحو 821 مليونًا، والرقم في ازدياد. ومع ذلك، يُفقد أو يهدر ما يقرب من ثلث الأغذية المنتجة عالميًا: 30 في المائة من الحبوب، 45 في المائة من الخضار والفاكهة، 20 في المائة من اللحوم، 35 في المائة من الأسماك؛ وهو ما يصل لنحو 1.3 مليار طن سنويًا. الهدر الغذائي على مستوى الاستهلاك في البلدان الصناعية يصل لنحو 222 مليون طن، بينما إجمالي إنتاج الغذاء في إفريقيا جنوب الصحراء يقارب هذا الرقم! وتقليص نسبة الفقد والهدر يمكن أن يطعم كافة الجياع في العالم وتحقيق الأمن الغذائي، إضافة للمكاسب البيئية (الفاو).
ثمة فرق بين الفقد والهدر، ومن ثم فرق في طريقة المعالجة. فقد الأغذية يعني أي غذاء يفقد في سلسلة الإمدادات بين المُنتِج والسوق قبل وصولها للمستهلك النهائي، أي من بداية الزراعة حتى الحصاد، إلى ما بعده من نقل وتخزين وتصنيع وتسويق. أما هدر الأغذية فيقصد به هدر الطعام الجاهز للاستهلاك البشري بالمنازل والمطاعم والفنادق وغيرها؛ شاملاً أيضًا التخلص من أطعمة انتهت صلاحيتها أو أطعمة ذات جودة غير مناسبة. لذا فإن فقد الأغذية يزيد في البلدان المنخفضة الدخل، بينما الهدر يزيد في البلدان ذات الدخل المتوسط والعالي. تلك معضلة تشكل تحديًا للأمن الغذائي والاقتصاد والاستدامة البيئية، وتمثل إهدارًا للموارد من أرض ومياه وعمل وطاقة؛ وتعمل أيضًا على خفض دخل منتجي الأغذية، وزيادة تكاليف مستهلكيها.
من هنا أطلقت المملكة مبادرات عدة للحفاظ على مواردها الطبيعية ومنها البرنامج الوطني للحد من الفقد والهدر في الغذاء الذي تنفذه المؤسسة العامة للحبوب. بدأ البرنامج بدراسة الوضع، وسيليه برنامج وطني توعوي وبعده دراسة إعادة التدوير ثم المرصد الوطني للفقد والهدر الغذائي في المملكة. الدراسة ميدانية ضخمة لقياس الفقد والهدر في الغذاء وسبل الحد منها شملت كافة مناطق المملكة لتسعة عشر منتجًا غذائيًا.
أظهرت نتائج الدراسة أن مقدار الفقد والهدر الغذائي بالمملكة بلغ نحو 4.1 مليون طن ما يشكل نسبة 33.1 في المائة من الغذاء (14.2 في المائة فقد، 18.9 في المائة هدر) قيمتها على أساس السلع المستهدفة بالدراسة نحو 13 مليار ريال/ سنة، وقيمتها التقديرية على أساس الإنفاق الاستهلاكي في المملكة 40.5 مليار ريال/سنة. أعلى نسبة فقد وهدر كانت في الخضراوات (أعلى من 40 في المائة) أما الأقل فكانت في لحم الغنم (15 في المائة) والتمور (21.5 في المائة) بينما تراوح الدقيق/ الخبز والأرز ولحوم الإبل والدواجن والأسماك في نسبة متوسطة (بين 28 إلى 34 في المائة).
نسبة الفقد كانت منخفضة في الخبز 5 في المائة وفي الأرز 3 في المائة، بينما نسبة الهدر فيهما بلغت 25 في المائة، 31 في المائة على التوالي، مما يشير إلى التبذير أثناء الاستهلاك، حيث أوضحت النتائج ذلك بجلاء فـ83 في المائة و91 في المائة من النسبة في الخبز والأرز كانت أثناء مرحلة الاستهلاك. وعلى النقيض، نجد أن ارتفاع النسبة في الخضراوات كانت نتيجة زيادة الفقد أكثر من الهدر والسبب غالبًا إشكالات في الإنتاج والتوزيع (التسويق). وكذلك في التمور حيث بلغ الفقد 16 في المائة غالبًا بسبب التخزين والتوزيع، بينما انخفض الهدر إلى 5.5 في المائة. أما للحوم والدواجن والأسماك فكانت النسبة متقاربة بين الفقد والهدر.
إذا انتقلنا على مستوى العالم، فأسباب الفقد والهدر تختلف حسب الظروف المحلية لكل بلد. الفقد يبدأ بمشكلات ما قبل الحصاد، مثل تفشي الآفات، يليها مشكلات الحصاد والفرز (انسكاب، بعثرة)، ثم المناولة والتخزين والتعبئة والنقل، وينتهي بالمعضلة الكبرى: التسويق. الأسباب الأساسية لذلك هو عدم كفاية البنية التحتية، والأسواق، وآليات الأسعار، أو حتى عدم وجود أطر قانونية أو وجود قيود إرادية وفنية.. الخ. وتعد التمور من الأمثلة لدينا على فقد الأغذية؛ نتيجة ضعف إدارة كثير من المزارع وقلة العناية، مع تواضع خبرة العمالة لإجراء العمليات الزراعية المناسبة (ري، تسميد، مكافحة، تقليم، تلقيح..)، إضافة لإشكالات التسويق، وبدائية التصنيع. هذا ينطبق أيضًا على إنتاج الخضراوات كالطماطم والخيار.
أما الهدر وهو الذي يزيد عادة في البلدان ذات الدخل المرتفع كالسعودية، فيحدث غالبًا في مرحلة الاستهلاك كالشراء أكثر من الحاجة، وقبلها في المراحل النهاية للتوزيع، على الرغم من أنه يمكن أن يحدث في المراحل السابقة مثل الإفراط في إنتاج محاصيل زراعية في وقت معين، فيزيد العرض على الطلب، ويتم إهدار الفائض.
أهم الحلول بالنسبة للفقد، هي الاستثمار في البنية التحتية (طرق، وسائل نقل، مخازن، تبريد، مرافق التسويق ومنافذ التوزيع، تعاونيات التسويق)، ووضع سياسات تسويقية مناسبة وعدم الإفراط في الإنتاج على حساب الطلب.. وقبل ذلك توعية المزارعين بإجراء أحدث العمليات الزراعية المناسبة. أما بالنسبة للهدر، فمفتاح حله يكمن في تثقيف المستهلكين لتغيير أنماط تسوقهم للأغذية، وسلوكهم وعاداتهم الاستهلاكية وتخزين الغذاء بشكل صحيح في المنزل، عبر حملات إعلامية وتعليم في المدارس وبرامج توعية عامة. كذلك من المهم توعية المنتجين (المزارعين) بالالتزام بمعايير الجودة وذوق المستهلك كالشكل والحجم واللون كيلا ترفض منتجاتهم من المحلات الكبرى. وأخيرًا فيمكن أيضًا إدارة الأغذية المهملة ونفاياتها وإعادة تدويرها بشكل إنتاجي للسماد واستعادة الطاقة.
لنتذكر الماضي حين كانت الناس في بلادنا تعاني من الجوع، أما الآن فالناس تعاني من التخمة!