د عبدالله بن أحمد الفيفي
ثمَّة فرقٌ بين تعدُّد القراءات لتعدُّد الأوجه التي يحتملها النصُّ، وتعدُّدها لأسباب أخرى، من إهمال السياق في بعضها، أو لأخطاء في فهم إشارات النص، إلى غير هذين من الأسباب. وقد كان إهمال السياق في قراءة النصوص وفهمها يُوقِع، في تراثنا النقدي العربي، اختلافاتٍ لا تنتهي، ومِراءً لا طائل من ورائه.
قال (أبو الطيِّب المتنبِّي):
وأنا مِنكَ؛ لا يُهَنِّئُ عُضْوٌ ... بِالمَسَرَّاتِ سائِرَ الأَعضاءِ
فقال (أبو العباس أحمد بن علي بن معقل الأزدي المهلَّبي، -644هـ= 1246م)، في كتابه «المآخذ على شُرَّاح ديوان أبي الطيِّب المتنبِّي» (1)، وهو يَرُدُّ على (ابن جنِّي، -392/ 393هـ=1001/ 1002م)، في شرحه شِعرَ أبي الطيِّب، في كتابه المسمَّى «الفَسْر»:
«قال: يقول: أنا منك فكيف أُهنِّئُك؟ وهل رأيتَ عُضْوًا من جُملةٍ هَنَّأَ سائر الأعضاء منها؟
وأقول: هذا الذي أنكَره مُستبعِدًا قد جاء لأبي نُواسٍ أحسنَ مَجيءٍ على وجهِ المجاز والاستعارة، وهو قوله:
قَنِعْتُ إذْ نِلْتُ من أَحْبَابِيَ النَّظَرا ... وقلتُ: يا ربِّ ما أعطيتَ ذا بَشَرا
لم يَبْقَ مِنَّيَ من قَرْنٍ إلى قَدَمِ ... شيءٌ سِوَى القَلْبِ إلَّا هَنَّأَ البَصَرا».
وأقول أنا: شَرْحُ ابن جِنِّي صحيح؛ فالشاعر يقول لـ(كافور الإخشيدي)، وقد طالبه بذِكر دارٍ بناها:
إِنَّما التَهنِئاتُ لِلأَكفاءِ ... ولِمَن يَدَّني مِنَ البُعَـداءِ
وأَنا مِنكَ لا يُهَنِّئُ عُضْوٌ ... بِالمَسَرَّاتِ سائِرَ الأَعضاءِ
ولا أدري كيف أدرج ابن معقل ما جاء في كلام الشاعر مأخذًا على ابن جِنِّي، وإنما كان ما أورده الأخير تحريرًا لكلام الشاعر ونثرًا لنظمه؟! فإنْ كان من مأخذٍ، فعلى الشاعر لا على الشارح. وبيتا المتنبِّي مترابطان، جاء الثاني تعليلًا للأوَّل، لولاه لبدا الأوَّل هجاءً. فالشاعر يقول: إنني ما دمتُ منك، فقد صرنا كالجسد الواحد، تتداعَى أعضاؤه بالمسرَّات لا بالتهنئات. ومع أنه لا يلزم أن يوافق تعبير أبي الطيِّب تعبير أبي نواس، فإن بيت أبي نواس مختلف المعنى؛ من حيث إن الأعضاء تهنِّئ البصرَ لأنه هو تحديدًا الذي نال من أحبابه النظر. واستثنى القلبَ من التهنئة لأنه موضع السرور، فكان باستثنائه موافقًا قولَ المتنبِّي: «لا يُهَنِّئُ عُضْوٌ بِالمَسَرَّاتِ سائِرَ الأَعضاءِ».
لقد كان ابن معقل حريصًا على إظهار فَهْمِ ما لم يفهمه ابن جِنِّي، وبأيٍّ وجهٍ من الوجوه، وإنْ جاء متكلَّفًا. بَيْدَ أن إغفاله الربط بين الأبيات كثيرًا ما كان يُفقِده الرؤية في القراءة، ويذهب به في الافتراضات المصطنعة. يقول، مثلًا:
«وقوله:
سُبِقْنَا إلى الدُّنْيَا فَلَوْ عَاش أَهْلُهَا ... مُنِعْنَا بها من جَيْئَةٍ وذُهُوبِ
قال: أيْ لو عاش مَن قَبْلَنا لما أمكنَنا نحن المجيءُ والذَّهابُ، لأن الله -تعالى- بنَى الدُّنيا على الكَونِ والفَسادِ ولم يُخَصِّصها بأحدهما وليس ذلك في الحكمة.
وأقول: الظاهر أنه أراد: أيْ لو عاش أهلُ الدُّنيا فلا يموتون لامتلأتِ الأرضُ من الخَلق فتعذَّرتِ الحركة عليها؛ المجيء والذهاب، لكثرة الخَلق. وفي هذا تَسليةٌ لسَيف الدَّولة بكثرة من مات.»(2)
والحق أن بيت الشاعر لا يحتمل ما ذكره ابن معقل. فالشاعر يقول بوضوح:
وقَد فارَقَ الناسُ الأَحِبَّةَ قَبلَنا ... وأَعيا دَواءُ المَوتِ كُلَّ طَبيبِ
سُبِقنا إِلى الدُّنيا فَلَو عاشَ أَهلُها ... مُنِعنا بِها مِن جَيْئَةٍ وذُهوبِ
تَمَلَّكَها الآتي تَمَلُّكَ سالِبٍ ... وفارَقَها الماضي فِراقَ سَليبِ
فالمجيء هو إلى الدُّنيا، والذهاب هو عنها، لا بمعنى الحركة في الأرض، بل يقول: إن المجيء نفسه سيصبح منتفيًا، وإذا انتفى المجيء انتفى بانتفائه الذهاب. بمعنى انتفاء الوجود أصلًا؛ لتملُّك السابقين إيَّاه واستبدادهم به. فالمسألة ليست بمسألة امتلاء الأرض وتعذُّر الحركة. على أن هذا الذي بدا لابن معقل هو معنى ساذج، لا يصدر عن مِثل أبي الطيِّب، فضلًا عن أن السياق لا يؤيِّده.
هذا، وإني لأجد في عقل أبي الطيِّب أحيانًا التواءً في التعبير عن معانيه، فإذا هي تَظهر غامضةً عويصةً مشكِلَة، وإنْ كانت أيسر من ذلك، لو أحسن عنها التعبير. وسنرى ذلك في المساق التالي، وسنتأمَّل الالتواء في أسلوب أبي الطيِّب، وكيف كان يمكنه أن يعبِّر عن معناه بصياغة شِعريَّة مبينة، لولا أنه كان كمَن إذا أراد أن يُشير إلى أُذنه اليُمنى، أشار إليها بيده اليسرى ومن خلف رأسه.
... ... ...
(1) (2003)، المآخذ على شُرَّاح ديوان أبي الطيِّب المتنبِّي، تحقيق: عبدالعزيز بن ناصر المانع (الرياض: م ركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلاميَّة)، 1: 18- 19.
(2) م.ن، 1: 19.