رمضان جريدي العنزي
كنا ثلاثة، متحدون في الأمزجة، وأعمارنا متقاربة، قلنا سنبحث عن فضاء فسيح، ومدن خالية من الزحام، نجدل المسافات سعيًا، نغازل النجمات ليلا، ونرهف السمع لصوت المنابر، ونرفض من يعكر علينا صفو النهار، هي المناخات إذا ما جاءت صارت حالمة، نيمم وجوهنا شطر الفرح، ووجهتنا واضحة، وغاياتنا مثل بزوغ النهار، هو الندى تدرج في أرواحنا مثل خصال السحاب، والأرجوان نابت في حديقة زاهية، يحيل القلب إلى بلورة من ذهب، نمشي في طرقات المدينة، نبحث عن حيها القديم الذي من العتق انحنى، والدرب فيه انكسر، في الزاوية عجوز نحيل، كأنه قوس ربابة، يتوكأ على عصا من قصب، تقذفه الهواجس، وينتابه صخب مرارة، وصدرة من الحزن يئن، ويبحث عن نهاية مورقة، يشتكي للرقاد مرة، ومرة يشتكي للسهاد، يعرف سر الوقت، وشبح الخوف، وسر الهوى والرغبة والعذاب، وطفلة صغيرة دك التراب ضفيرتيها، ووجهها من التراب بهت، حافية وأسمالها بالية، نمشي بين الأزقة الضيقة، حائط مدور، ونصف بيت، وعشب يابس، وسقف تهدل، ورائحة صرف تزكم الأنوف، وتصيب بالعفن، بغل يجر عربة، جاموس يخور، وهر وكلب، وثلة في مرج مع بعضهم يتقيؤون كلام الهجاء، ويضجون بلغط، نرقب لبرهة سطوة الموقف على زوايا المكان، ثم نيمم وجوهنا لوجهة ثانية، هو النيل نهر خالد، يندلق ممتدًا كصباح، يروي من مائه عروق الشجر، وفوقه تصدح المراكب التي لا تنام، بهي هو ذا النهر، مثل لوحة عتيقة، لكنها فاخرة، سيما إذا أطبق الليل دجاه، يصير الهواء عليلاً، ويبلغ الحلم منتهاه، هي القلوب التي لا تحب الحياة، تشيخ سريعًا، وينبت الشوك على ضفتيها، وقد تحترق، ابدأ مثل الهوى بلا ندى، يصبح خانقًا مختنقًأ، كسموم الرياح، إن القلوب التي لا تحب الحياة، قلوب معطلة وفيها قلق، نحن الثلاثة كل ليلة نسرد الحكايا مع بعضنا، ويأسرنا الحديث، التصاوير عندنا مبثوثة، والزمان الذي كان، كان ومضة من حنين، نضاجع طيفه، ونغازل ظله، ونبعث للراحلين ابتهالات الرحمة العابقة، نصوغ الحديث، ونطوي القصيد على أوزان الخليل، ونطرب للهجينى والنشيد، نحط الرحال بأرواحنا، وننفث أوصالها، نغازل الأطيار، ونقيم كرنفالًا للفرح، نجتر الكلام تلو الكلام، ونضاحك بعضنا، كأننا بيادق شطرنج، أو ريش رسم، نعرف عمق اللحظة وسطحها، نميز الألوان من بعضها، نمقت الخديعة، وندرك جيدًا خطوط الاستقامة، ننيخ الرواحل، وندلي الدلاء، ونسهب بالحديث عن ناقة عجفاء، وخيل وسيف وطريدة، وسس يبحثون عن عشب وماء، وانفراجات ضياء، إننا عشاق تاريخ طويل، وخيول تتهادى غرة الصبح، والوقت فريد، تأخذنا ذكريات السنين، ولحظات صحو لم نشبع منها، غير أننا نستعيد ما مضى كرواية، سيما ونحن العابرون نبحث عن فرح لأرواحنا المتعبة، منهمكون في كل شيء، في الساحات القديمة يختصر الباعة حجم المسافة، وحجم التعب، والمستهلكين زرافات يبحثون عن شيء عجيب، ونحن نبحث عن بضاعة لم تجلب بعد لسوق المدن، تقاسمنا الفرح، وزعناه بيننا بالتراضي، تقاسمنا السعادة، صرنا مثل سندباد صار الرحيل عنده عادة.