أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال الله سبحانه وتعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة البقرة /29].. جاء هذا النص الكريم بعد أن ألزم الله الكافر بطلان جحده ربه مباشرة بأسلوب الإنكار والتقريع والتوبيخ في قوله سبحانه وتعالى:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ....} [سورة البقرة /28]، وأقام الله سبحانه وتعالى عليهم الحجة بدلالة الأولوية؛ وأن القادر على الخلق من عدمٍ قادر من بابٍ أولى على الإعادة، ثم أتبع ذلك هذه الآية الكريمة ليذكرهم نعمته عليهم بخلقه ما في الأرض جميعا؛ فيعلمون حق الله عليهم الموجب عبادتهم إياه.. ورأى الإمام (ابن جرير) وغيره كثير-رحمهم الله تعالى-: أن الآية برهان على وحدانية الله سبحانه وتعالى؛ والوحدانية تقتضي تفرده سبحانه وتعالى بالكمال المطلق، وتفرده بالتنزه المطلق عن كل نقص.. قال (ابن جرير):«وجميع ما في الأرض لبني آدم منافع، أما في الدين فدليل على وحدانية ربهم ».. انظر تفسير ابن جرير 1/426.
قال أبو عبدالرحمن: وفي الآية دلالة على النبوة؛ كما قال (ابن جرير) رحمه الله تعالى: «وكان معلوما من محمدٍ صلى الله عليه وسلم أنه لـم يكن قط كاتبا، ولا لأسفارهم تاليا، ولا لأحدٍ منهم مصاحبا، ولا مجالسا؛ فيمكنهم أن يدعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم، أو عن بعضهم»[ قال أبو عبدالرحمن: لأن العلم عن حاله، لا من أقواله صلى الله عليه وسلم].. وأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا؛ لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع؛ وأما في الدين فدليل على وحدانية ربهم، وأما في الدنيا فمعاش، وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه».. انظر تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل القرآن 1/426).
قال أبو عبدالرحمن:اشتمل كلام الإمام (ابن جرير) رحمه الله تعالى على برهان التوحيد؛ لأن الآية تذكير بنعمة الله؛ وبيان ذلك أن الله أقام البرهان على قدرته، وذلك من مسائل توحيد الله في أسمائه وصفاته، ومن علم بالقدرة المطلقة انقاد للقادر سبحانه وتعالى وحده بالطاعة والعبادة والدعاء؛ ومع دلالة الآية الكريمة على هذا المقصد النفيس: فهو ضمني لا استقلالي؛ لأنه مذكور في سياق الامتنان على المكلفين؛ فصح أن المقصود من الآية الامتنان بالنعم من مسديها الواحد الأحد ربنا سبحانه وتعالى؛ ومن ضمن ذلك الامتنان بنعمه؛ مما يدل على توحيد الله بدلالة ما في أرض الله من البراهين.. وإخباره سبحانه وتعالى بما صدر عن قدرته من خلق مافي الأرض لنا: جاء من أجل انقياد بني آدم لطاعة ربهم عن محبةٍ؛ لأن المخلوق نعمة عليهم من ربهم .. ودلت الآية على علمٍ غيبي ممالا يعلم إلا بالوحي؛ فكان من ذلك دليل على أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول من ربه سبحانه وتعالى؛ لأن الإيمان بالرسالة بدلالة الغيب إنما يكون في أمورٍ مغيبة يكتشفونها فيما بعد كوجودهم ما أخبر به رسول صلى الله عليه وسلم مدونا في كتب أهل الكتاب؛ فهو غيب بالنسبة له صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يعلمون أنه لا وسيلة له في العلم به، وأنه لا يقرأ ولا يكتب؛ ولم يشهد أحد معلما له يعلمه القراءة والكتابة وأخبار الأمم؛ وههنا في الآية الكريمة وسياقها يوجد شيء مشاهد مما خلقه لنا ربنا في الأرض، كما أن في الأرض ما هو مغيب، وأن الاستواء إلى السماء مغيب، وفعل الله في خلق ما في الأرض مغيب، والعلم بالرب سبحانه معاينة مغيب؛ وإنما المشهود لنا في الأرض مفعوله.
قال أبو عبدالرحمن:وما ذكره الإمام (ابن جرير) رحمه الله تعالى يحتاج إلى وقفات:
الوقفة الأولى:أنه يوجد فرق بين استصحاب (حال البراءة)، واستصحاب (حكم الشرع)؛ ولكل من الاستصحابين معناه الخاص؛ فإذا قال القانونـي: (المتهم بريىء حتى تثبت إدانته)؛ فهذا استصحاب حال براءة الإنسان من أي جناية كحقٍ لشخصٍ حتى تثبت إدانته بالجناية؛ وإذا قال المتمسك بالسنة:(لا يجب من الصيام إلا شهر رمضان، والكفارة إذا تعينت بالصيام والنذر)؛ فهذا استصحاب براءة المكلف من الحكم الشرعي إلا ببرهانٍ من الشرع؛ ولم يوجد في موارد الشرع صيام واجب غير ذلك؛ فمن ادعى وجوب شيء غير ذلك فعليه البرهان؛ فهذا استصحاب حكمٍ شرعي؛ لأن الله مدح من يحفظون فروجهم، وأباح لهم زوجاتهم، وما ملكت أيمانهم على طهارةٍ من الحيض والنفاس وفي الموضع الذي جعله الله حلالا؛ ووصف مبتغي غير ذينك بأنه من العادين ..قال ربنا سبحانهوتعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [سورة المؤمنون / 5-7]، و[سورة المعارج / 29-31] .. والاستصحاب الأول يجعل الأصل الإعفاء والبراءة إلا بدليل؛ والاستصحاب الثاني يجعل الأصل تكليفا بالحرمة إلا بدليل؛ وبهذا رجح قول من حرم العادة السرية؛ فلا يطالب ببرهانٍ على تحريمها بعينها؛ لأنه مستصحب حكم الشرع في استعمال الفروج على التحريم، ومستصحب حكم الشرع فيما أبيح من الفروج استثناء؛ وإنما يطالب مدعي إباحة العادة السرية بالبرهان الشرعي على إباحتها بعينها.. وقد أباحهن الإمام (أبو محمد ابن حزم) رحمه الله تعالى.
قال أبو عبدالرحمن:أباح (أبو محمد ابن حزم) عفا الله عنه جلد عميرة؛ انظر المحلى 12/407-408 / دار الكتب العلمية ببيروت خلال المسألة 2307، و(مسألة السحاق) في مسائل التعزير، ولم يصب في ذلك؛ فإلى تحقيقٍ لبطلان ذلك في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى؛ والله المستعان.