د.فوزية أبو خالد
رسالة مؤثرة:
جاءتني رسالة عميقة على بساطتها، مؤلمة على ما بها من أمل، قلقة على ما بها من هدوء. والرسالة وإن لم تكن موجهة إلي شخصيًّا فقد وقعت في يدي بصدفة متعمدة إن صح التعبير. وذلك بأن قام صاحب الرسالة بإرسال نسخة منها لي مع أنني لست المعنية بها مباشرة، ثقة ربما بمن ليس بيده من الأمر شيء إلا أمر إبداء الرأي، لكن إرسالها لي يعود على ما يبدو لتلك النوعية من الثقة التي عادة ما يكتسبها كاتب محظوظ من قارئ يستفتي العقل فيما يقرأ. غير أن أصل الرسالة كان قد كتب بحصافة وشجاعة وبخط يد جميل من المرسل إلى من قد يكون بيده الأمر وهو سعادة رئيس التحرير، لهذه الصحيفة نعم صحيفة الجزيرة.
ومع علمي أني لستُ المعنية بالرسالة فإنني لم أستطع أن أتناسها أو أفلتُ من شجنها فقد كانت رسالة فيها من الصدق ومن التأثير ما يجعلها تستحق التوقف عندها بل الكتابة عنها كما أفعل الآن. هذا بالإضافة إلى أن موضعها قد يكون موضوع الساعة في المحنة الوجودية العالمية التي تمر بها الصحافة الورقية اليوم وسأعود لاحقًا لمحاولة توضيح ما أقصد بالمعنى الوجودي لمحنة الصحافة الورقية على مستوى عالمي ومحلي معًا.
* * *
الرسالة:
وإليكم الرسالة التي أرسلت لي نسخة من أصلها الذي أرجو أن يكون حط على مكتب المعني بالأمر
الأخ المكرم الأستاذ خالد المالك
رئيس تحرير صحيفة الجزيرة بالرياض/ حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تفاجأت بقرار جريدة الجزيرة إيقاف التوزيع عن محافظة المذنب بمنطقة القصيم، ولا أدري ما هو سر هذا القرار! هل هو عجز في ميزانية الصحيفة؟ أم نقص في عدد القراء؟ أو أسباب أخرى قد تغيب عنا أو لا نعلمها؟!
لا أخفي عليكم الأثر السلبي لهذا القرار على نفسي وعلى غيري في المذنب. الكل مستغرب. سبق وأغلق مكتب الصحيفة بالمذنب وتقبلنا ذلك على مضض وقلنا لا بأس ولكن أن يتوقف أو يمنع توزيع الصحيفة علينا فهذه مسألة نرى أن فيها نظرًا ولذا كان لا بد من رسالة للاستضياح؛ فلا أقل من أن يعرف القراء ومتابعو صحيفة الجزيرة لعقود سبب إيقاف توزيع الصحيفة في محافظتهم/المذنب بمنطقة القصيم، ولا بد من أن يكون هناك خط عودة لمراجعة مثل هذا القرار غير المنصف لنا أي للقراء الذين لا يزالون متعلقين بقراءة الصحف كصحف. نحن قراء ومشتركين منذ زمن بعيد ونعتبر جريدة الجزيرة صوتنا بل صوت الوطن كله. فلماذا فجأة ينقطع وصولها اليومي إلينا بخلاف ما عهدنا. أنا قارئ قديم لصحيفتكم الغراء منذ العام 1405 ومستمر معها وشغوف بها إلى الأربعاء الماضي. 7-11-1440. لقد مضت خمسة وثلاثون عامًا من الحرص على قراءة هذه الصحيفة كل صباح جديد. وأنا أقرأ كل ما يكتب فيها خاصة ما يكتبه كتاب وكاتبات متميزون مثل د. محمد العوين، د. حسن الهويمل ود.جاسر الحربش، د. حمزة السالم ود. إبراهيم التركي وعبدالمحسن الماضي وما تكتبه أنت شخصيًا والكثير ممن يصعب حصرهم ومن الكاتبات أحرص على قراءة كل ما تكتبه د. فوزية أبوخالد د. فوزية البكر، سمر المقرن، رقية الهويريني وفوزية الجار الله. فصحيفة الجزيرة هي الصحيفة الأثيرة عندي وعند عدد كبير من أهل المحافظة وهي الناطقة بالكثير مما يهمنا ومما يوسع دائرة الوعي بالمنطقة ويزيد من لحمة الوطن بعضه مع بعض وفي حالتنا يقوي علاقة المذنب بمجريات الأمر والأخبار في عاصمتنا الرياض وبكل بقعة من بلادنا الغالية.
أرجو إعادة النظر في القرار وإعادة توزيع صحيفة الجزيرة بالمحافظات والمناطق كسابق عهدها.
ختامًا تقبلوا تحياتي ودمتم في حفظ الله ورعايته
وكانت الرسالة باسم ابن المذنب الأستاذ صالح بن عبدالله السعيد من أبناء محافظة المذنب منطقة القصيم
* * *
تعقيب:
أولا، لا بد وأننا بجريدة الجزيرة رئيس تحرير وكوادر تحرير وإدارة وكتاب نشعر بالزهو وبالاعتزاز بمثل هذه الرسالة وبمثل هؤلاء القراء المميزين بالوعي والوفاء
ثانيا، لا بد للمذنب والقصيم والرياض بل البلاد كلها أن تفتخر بهذا الترابط بين العاصمة وبين المحافظات والمناطق الأخرى في المراكز والأطراف الذي استطاعت جريدة الجزيرة أن تشكل أحد أعمدته القوية وأحد جسوره الحيوية.
ثالثا، لا شك أن الصحف الورقية الكبرى دوليًا وليس محليًّا وحسب تمر بمحنة وجودية تصيبها في مقتل لأنها تمس سبب وجود الصحافة نفسه أي وظيفتها البنائية في المجتمعات الحديثة. وهي وظيفتها الرقابية كممثل للسلطة الرابعة التي قامت عليها بنية العلاقة بين الدولة والمجتمع المعاصر المتمثلة في السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية وسلطة الصحافة، والأخيرة تعتبر صوت المجتمع والمتحدثة عنه والمعبرة عن رأيه في أداء السلطات الأخرى وفي علاقتها ببعضها البعض. ويرجع هذا التهديد الوجودي للسلطة الرابعة بطبيعة الحال إلى الثورة المعلوماتية والتقنية التي أوجدت قنوات ومنصات إلكترونية تتيح رقابة فورية وبالصوت والصورة تصل رقابتها وآراؤها في لمح البصر ويعمم التعبير عنه فوريا بضغطة زر لا أكثر. هذا بالإضافة لدخول المجتمعات الحديثة خاصة المخترعة والمنتجة لهذه الأوعية الرقابية والتعبيرية الإلكترونية كمجتمع مدني بقواه الاجتماعية وبأفراده إلى أعضاء فاعلين لحظيًا وليس يوميًّا فقط في بنية السلطة الرابعة الجديدة وهي سلطة الصحافة الرقمية والإعلام الإلكتروني عموما. أنه يجري توسيع سريع ومتعدد لدائرة فعل وتطبيق النظام الديموقراطي نفسه في مجتمعاتها عبر الصحافة الرقمية والسوشل ميديا عموما.
رابعا، ولكن إذا كان هذا هو حال تأثير الصحافة الرقمية على الصحافة الورقية وعلى بنية النظام وشبكة العلاقات الرأسية والأفقية عالميا، فإن الأمر نسبيًّا قد يختلف مرحليًا على الأقل من مجتمع لآخر. على الرغم من تصنيفنا الدارج بأننا من أعلى المجتمعات المستهلكة للتقنية الإلكترونية، فمن السهل أن نتحول هذا التحول الجارف التام عن الصحافة الورقية إلى الصحافة الإلكترونية وإعلام الدجتل بشكل عام دون مراعاة لمثل هذا الشجن الحقيقي الذي يعبر عنه وقف توزيع الصحف مثلا في الأطراف.
خامسا، أستعير معنى تغريدة للزميل د. سعد البازعي مع رشة من حبري لأختم بهذا المقال خاصة ونحن نتحدث عن صحافتنا التي تعتبر صحافة رسمية: الدعم الذي يتوفر حاليا للرياضة و(لأنشطة أخرى ومنها الترفيه) لو اتجه جزء منه لتطوير الصحافة تطويرًا نوعيًّا لربما أعاد الأمل للصحافة الورقية والرقمية معًا.
وأخيرا بودي لو فعلا نستفيد من تجارب صحف غربية كبرى استطاعت لما رأت الانهيار في توزيعها الورقي ليس فقط أن توسع حضورها الرقمي بل وأيضًا حافظت على وجودها الورقي من خلال البحث وإيجاد -عمليًّا- منافذ مالية جديدة لدعم استمرار الصحف ورقيًا ورقميًا وبسقف عال من الحرية بطبيعة الحال مما لم يسمح بتهديد الصحافة كسلطة رابعة وإن تغيرت وتعددت الأوعية.