عمر إبراهيم الرشيد
غالبًا ما يبني معظم الناس أحكامهم على ظواهر الأمور، وقليل مَن يتروى أو يقرأ بين السطور، ويربط بين ما يراه والعلة المحتملة، ويفرّق بين العَرَض والمرض {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (269 سورة البقرة.
هذه قصة واقعية من دفاتر الأيام. المكان هو أحد الفصول الدراسية في إحدى المدن الأمريكية، حين أخذت المعلمة تثني على أداء الطلاب في الاختبار ما عدا (تيدي)، الذي استثنته في قرارة نفسها لإهماله ورسوبه، بل إهماله حتى لمظهره، ولم تتردد في كتابة كلمة (راسب) بالقلم الأحمر على ورقته. وفي أحد الأيام طلبت الإدارة من المعلمة مراجعة سجلات الطلبة في مراحلهم السابقة، وحين راجعت سجل هذا الطالب وجدت الآتي: كتب معلم الصف الأول أن (تيدي) طالب ذكي موهوب ومجتهد في الصف، وكتب معلم الصف الثاني أنه محبوب لدى زملائه كذلك ولكنه حزين لإصابة أمه بالسرطان. أما معلم الصف الثالث فقد كتب أن لوفاة والدة الطالب أثرًا عميقًا عليه، وأن والده منشغل عنه مما يهدد مستقبله الدراسي. أما معلم الصف الرابع فقد قال إن (تيدي) منطوٍ على نفسه ومحبط وليست لديه رغبة في الدراسة حتى أنه ينام في الفصل.
عندها أدركت المعلمة (تومسون) الخطأ الذي ارتكبته، وتقصيرها في حق هذا الطالب. وبعد أيام، وبمناسبة ذكرى ميلاد المعلمة، تنافس الطلاب في إحضار الهدايا لمعلمتهم (تومسون)، وحين جاء دور (تيدي) ضحك زملاؤه حين رأوا هديته ملفوفة في (كيس بلاستيك)، وحين أخرجت المعلمة الهدية إذا بها عقد بأحجار ناقصة، وقارورة عطر بها ربع الكمية المتبقية فقط. ارتدت المعلمة العقد، وتعطرت بالعطر، وشكرت تيدي، وأثنت على هديته حفظًا لكرامته، وتأكيدا لاحترامه أمام زملائه أيضًا. خرجت المعلمة بعد انصراف الطلاب، وحين وصلت الباب وجدت تيدي بانتظارها، فقال لها إنه أحضر لها عقد أمه وقارورة عطرها. عندها انفجرت المعلمة باكية تأثرًا بهذا التصرف النبيل من تيدي. ومن يومها أولت المعلمة هذا الطالب اهتمامها ودعمها النفسي؛ فتقدم في دروسه، واستعاد روحه المعنوية ونشاطه حتى أصبح الأول على أقرانه. وفي يوم كتب تيدي على ورقة علقها على باب معلمته (أنت أفضل معلمة قابلتها في حياتي)، وردت عليه معلمته بأنه هو من علمها لتكون معلمة متميزة.. فانظروا إلى سمو التعامل!
بعد مُضي سنوات عدة تلقت تومسون دعوة من تيدي لحضور حفل تخرجه من كلية الطب. لبت الدعوة مرتدية العقد نفسه مع العطر نفسه الذي أهداها إياهما. ثم إن تيدي ستودارد قد أصبح من أشهر أطباء العالم، وصاحب مركز (ستودارد لعلاج السرطان). رزقنا الله وإياكم الحكمة، وحفظكم. وإلى اللقاء.