د.عبد الرحمن الحبيب
توتر العلاقة بين واشنطن وأنقرة دخل مرحلة التأزم، فبعد تسلم أنقرة الأجزاء الأولى من برنامج الدفاع الروسي «إس 400»، قررت أمريكا استبعاد تركيا من برنامج مقاتلات «إف 35»، موضحة أن خسائر تركيا ستبلغ نحو تسعة مليارات دولار كان مقرراً كسبها من مساهمتها في تطوير برنامج تلك المقاتلات؛ مبررة ذلك بأن «مقاتلات إف 35 لا يمكنها التعايش مع منصة روسية لجمع معلومات استخباراتية تستخدم لمعرفة قدراتها المتطورة.. وقبول نظام إس 400 يقوض التزامات تعهد بها أعضاء الناتو بالابتعاد عن روسيا»، وبدوره أعلن أردوغان أنه يبحث فكرة شراء مقاتلات سو 35 الروسية..
المنتقدون الغربيون يرون أن شراء أنقرة أسلحة مصممة لإسقاط طائرات حلف الناتو يثير استفهامات عن مدى التزام تركيا بعضويتها لهذا الحلف. كتب كون كوغلان بصحيفة ديلي تلغراف : «إن أيام رغبة تركيا في توثيق علاقتها بالغرب عن طريق الانضمام للاتحاد الأوروبي انقضت، بل إنها أصبحت توثق صلاتها بأفراد وجماعات تسعى لإيذاء أوروبا».. وكان عنوان المقال «حان الوقت لإنهاء عضوية تركيا بحلف الناتو». بطبيعة الحال، الخلاف لم يصل لهذه الحدة؛ إذ قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض ستيفاني غريشام : «كحلفاء في الناتو، علاقاتنا ذات مستويات متعددة وليست مركزة فقط على إف 35»؛ إلا أنه «سيؤدي إلى تبعات مضرة بالنسبة إلى التعاون العملياتي بين تركيا والحلف.» حسب بيان للبيت الأبيض (رويترز).
بيد أن هذا الخلاف يمثل حلقة لسلسلة تتراكم منذ سنين؛ فمنذ عقود لم تكن تركيا على وفاق تام مع الغرب حين كان يُنظر إليها كحليف اضطراري تم تحملها من أجل المواجهة ضد الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة، وباعتبارها الشريك الأصغر لأمريكا.
بعد نهاية الحرب الباردة بدأت بوادر خلافات تظهر ببطء ولا سيما بعد عام 2002 مع وصول أردوغان وحزبه الذي له توجه يخالف الغرب ولكن ليس لدرجة التعارض، خاصة مع سياسة «صفر مشاكل» آنذاك الذي كان مهندسها داوود أوغلو وزير الخارجية الأسبق.
مع بداية «الربيع العربي» أواخر عام 2010 والفوضى العارمة التي أحدثها لاحقاً في البلدان التي ظهر فيه، وما نتج عنها من اضطرابات أصابت المنطقة برمتها، تراجع تأثير أوغلو قبل إجباره على التنحي، وانقلبت سياسة «صفر مشاكل» رأساً على عقب، وأطلق عليها البعض سياسة «صناعة المشاكل»، والتدخل بشؤون دول المنطقة، وظهر وجه جديد لأردوغان وحزبه مثل دعمه الإخوان المسلمين ومنظمات متطرفة أخرى.
في البداية لم يزعج ذلك الإدارة الأمريكية خلال رئاسة أوباما لكنه أزعج دول غرب أوربا. إلا أن تردي الوضع في سوريا والعراق أدى إلى تدخل عسكري تركي بدعوى مواجهة حزب العمال الكردستاني، ولدعم جماعات إسلامية متطرفة لمواجهة هذا الحزب مما زاد القلق الغربي. في تلك الأثناء، كانت أمريكا متحالفة مع أكراد سوريا والعراق وتطلعاتهم للحكم الذاتي، مما يُنظر إليه في تركيا على أنه عمل تآمري لتفريق البلاد، حتى أنه وحَّد القوميين الأتراك (العلمانيين) مع أردوغان وحزبه، خاصة بعد تسليح واشنطن وحدات حماية الشعب (الكردية).
زادت حالة التوتر بعد الانفصال الحاد بين أردوغان وحليفه فتح الله غولن الذي سبق أن دعمه في واشنطن ولمَّع صورته في الغرب عبر حركته؛ لكن عندما انقلبت حركة غولن على أردوغان، في وقت كان الرأي الغربي أيضاً ينقلب ضد أردوغان، زادت نظرة المؤيدون للأخير في تركيا بوجود علاقة تآمرية بين الغرب وغولن.. واكتملت برأيهم نظرية المؤامرة، وهي أصلاً نظرية متجذرة في الثقافة التركية منذ قرون إبان حكم السلاطين.
مع مجيء ترامب لسدة الرئاسة الأمريكية وسياسته الخارجية المختلفة عن سلفه زادت الشقة مع تركيا، وعندما رفضت واشنطن تسليم غولن، الذي يعيش في المنفى بولاية بنسلفانيا، باعتباره وراء محاولة الانقلاب لعام 2016، اعتبر أردوغان أن واشنطن متآمرة معه. وأدت ملاحقة السلطات التركية لعشرات الآلاف واعتقالهم بزعم دعمهم لمحاولة الانقلاب، إلى تدهور علاقة تركيا مع الاتحاد الأوربي الذي يتهم أردوغان بتبني «نهج سلطوي متزايد». هذا التوتر تفاقم مع استمرار تركيا في استكشاف الطاقة قبالة سواحل قبرص العضو بالاتحاد الأوربي الذي بدوره فرض عقوبات على تركيا.
حلقة تلو أخرى في سلسلة تبعد تركيا عن الاتحاد الأوربي والناتو؛ فما الذي يجعل تركيا واثقة من عدم استبعادها من الناتو؟ يرى محللون غربيون أن أردوغان على ثقة بأن الغرب سيتغاضى عن الأفعال الاستفزازية التي تقوم بها حكومته، وسيسعى دائماً للحفاظ على صلات ودية مع أنقرة لأهميتها الجيوسياسية. يميل الأمريكيون إلى تفسير تحركات أردوغان الاستفزازية باعتبارها محاولات ابتزازية للحصول على تنازلات ملموسة، حسب الباحث نيك دانفورث (فورين بولسي).
في ظل الاعتقاد التركي بأن الغرب لا يمكنه تحمل خسارة تركيا لأهميتها الجيوسياسية، يبدو الغرب في حيرة بين فرض عقوبات قاسية على تركيا مما سيؤكد نظريتها للمؤامرة الغربية ومن ثم استمرارها بمشاكسة الغرب «المتآمر»، أو اتخاذ مواقف ضعيفة مما سيؤكد اعتقاد تركيا بأن أسلوبها المشاكس كان ناجحاً وبإمكانها الاستمرار فيه. لكن في كلتا الحالتين فإن العلاقة ستتدهور على المدى الطويل ما لم تحدث فرص تفكك هذه المعادلة المزدوجة.