د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
بذل النحويون جهودًا مضنية في بناء صرح نحو لغتنا العربية الشريفة، وهو أمر ننظر إليه فيدهشنا ما فيه من عمق التفكير وتكامل المصطلحات وتعدد الأفكار والآراء الذي يُظهر لنا مدى الحيوية الفكرية التي كان يتناول بها النحويون ظواهر اللغة، يصفونها ويستنبطون قواعدها، ويكشفون النظام المفسر لمفرداتها المبين عن تفاصيل العلاقة بين عناصر تراكيبها، وإنّ من واجبنا اليوم أن نتجاوز تلقي هذا النحو في شكل من أشكاله وهو القواعد المعيارية على أهميتها وبالغ أثرها في التعلم والتعليم إلى تفهم أصول التفكير عند النحويين وعلل اختلافاتهم.
والنحو ذو تاريخ طويل تناقل ذووه أفكاره وأقوال النابهين من أعلامه؛ ولكن هذه الأفكار والأقوال ربما نالها شيء من التحريف أو سوء الفهم، وهذا ما تبين لكثير من الدارسين الذين وجدوا من الأقوال في الكتب المتأخرة ما هو منسوب للمتقدمين؛ حتى إذا راجعوا كتب أولئك وجدوا أنّ فيها ما يعاند ما نسب إليهم، ويأتي كتاب الدكتور منصور صالح محمد علي الوليدي في هذا الإطار حيث يبحث قضية مهمة وهي ما ينسب إلى النحويّ من تفرده برأي أو قول.
وكتاب (التفرد بالرأي عند النحويين) ليس بحثًا في مشكلة التفرد أو قضية التفرد؛ إذ ليس التفرد مصطلحًا نحويًّا ولا نظرية يساق لها من القول ما يقتضيه التنظير، وإنما التفرد صفة تقع للأقوال والآراء في كل العلوم، فقد يكون التفرد في الرأي عند الفقهاء، أو عند المفسرين أو المؤرخين أو الفلاسفة أو غيرهم، ويقابل التفردَ الإجماع على القول أو الرأي، وليس يعني الإجماع التواطؤ بالضرورة؛ بل قد يكون بسبب من المتابعة، فكثير من النحويين تابع بعضهم بعضًا في الأقوال والآراء والأحكام؛ لأنّ معظم من اشتغل من النحويين به هم من المعلمين والمؤدبين؛ ولذلك نجد فضيلة الاجتهاد والتفرد بالقول أو الرأي عند العلماء الرواد منهم والمبدعين الذين ينبغون من عصر إلى آخر، فيكون لهم من التأثير ما ليس لغيرهم.
ومن هنا نجد هذا الكتاب يقفنا عند مسائل التفرد ليكشف لنا حقيقة هذا التفرد ومدى صدق نسبته لمن نسب إليه، فهو بهذا عمل توثيقي في المقام الأول، ينهض به هذا الباحث الجاد حين يعرض المسألة موضوع التفرد على التراث النحوي، فيبحث في تضاعيفه وينقر في خباياه حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود. وهو لا يكتفي بأن يحق الحق أو يقرر ما يجب أن يقرر بل يدرس المسألة موضوع البحث درس أناة من غير إغراق في التفاصيل أو إكثار من الاقتباسات أو حشد للنصوص، وهو أمر صعب أن تزوي أطراف المسألة حتى لا تخل بشيء منها ثم تنتهي إلى القول المرضي فيها.
آثر الباحث أن يصنف المسائل التي ورد القول بالتفرد بالرأي فيها تصنيفًا اعتاده الدارسون وجرت عليه كثير من الكتب النحوية التي استفادت من ترتيب ابن مالك لمفردات خلاصته التي تبدأ بالقضايا التمهيدية المشتركة بين الأسماء والأفعال ثم الانتقال لقضايا الجملة الاسمية فقضايا الجملة الفعلية ثم لقضايا مشتركة بين الجملتين، وآثر الباحث أن يتابع النحويين القدماء في الجمع بين مسائل النحو والصرف، وهم على الرغم من أنَّ بعضهم جعلوا للصرف مؤلفات خاصة ظلوا يعالجونه في مطولاتهم النحوية.
أحسن الباحث حين قدم لبحثه تمهيدًا يجيب على نحو مباشر عن ما يمكن أن يتوهمه القارئ أول وهلة من مطالعته عنوان هذا الكتاب فيظن أن الباحث سيأخذه في درس نظري لقضية التفرد، فالباحث يبدأ بمعنى التفرد في اللغة الذي يعني أن يكون منفردًا أو مستقلًا أو واحدًا، ولكن (التفرد) حين يضم إلى (الرأي) فيكون (التفرد بالرأي) يصير ذا صبغة خاصة أقرب إلى الاصطلاح الذي هو بحاجة إلى التحديد وبيان المقصود به، فصاغ الباحث ذلك في قوله (الرأي الذي صرَّح النحويون بانفراد صاحبه به عن سائر النحويين الذين سبقوه)، والباحث هنا يقفنا منذ البداية على حدود موضوعه فلا يدخل ما ليس فيها ولا يخرج منها ما هو فيها، وهذه الحدود هي التصريح بالتفرد؛ فإن لم يصرح بذلك فليس من هم الباحث التنقير عن الأقوال أو الآراء التي قد يتفرد بها نحوي من النحويين، فأمر هذا موكول لمن يدرسون حيوات النحويين وكتبهم، ولا ينسى الباحث أن يلم بمصطلحات قريبة من التفرد وإن اختلفت عنه اختلافًا بينًا مثل الغرابة والشذوذ والندرة. ومن أجمل ما تعرض له الباحث موقف النحويين من التفرد، فهم على الرغم من ميلهم إلى متابعة سلفهم وأئمتهم لا يمنعهم هذا من مخالفتهم إياهم والتفرد بالرأي ومخالفة الإجماع.
وليس التفرد بالرأي ميزة يتميز بها المتفرد، فالمعول على الرأي نفسه، ولذلك نجد الباحث يقول «إن التفرُّد -في حد ذاته- ليس مذمومًا، ولا يُعدُّ صوابًا أو خطأً؛ لأن قوة الدليل هي التي تمنح التفرُّد هذه الصفة أو تلك، وقد كان النحويون يتابعون الفرد، ويتركون قول الجماعة، إذا قوي لديهم الدليل».