على الرغم من أن المقالات السابقة تصب في اتجاه تأكيد أهمية اللغة العربية في تعزيز الأمن الوطني؛ فإنه من المهم بيان الجواب على سؤال مثل أن نقول: «كيف تكون اللغة العربية معززا للأمن الوطني؟ « وفي سبيل الإجابة على مثل هذا السؤال لابد، قبل ذلك، من الإشارة إلى أهمية الأمن، والحاجة إليه، وبيان ما يهدده من مخاطر وتحديات متنوعة ومتعددة، يأخذ بعضها بحجز بعض، وليتبين لنا فيما بعد العلاقة الوثيقة بين اللغة العربية وتعزيز الأمن الوطني بعامة، وأمنه الفكري بخاصة.
ومن الأمور البديهية إدراك الجميع حاجة الفرد والمجتمع والوطن للأمن في حياتهم بعامة؛ في جميع مظاهره ومفاهيمه المتنوعة، وعلى مختلف أشكاله وظواهره؛ في المستوى السياسي، والاستقرار الوطني الاجتماعي، والرخاء الاقتصادي، وتنمية قدرات الفرد والمجتمع الإنتاجية والإبداعية، وتحقيق السلام الاجتماعي، والرضى الفردي واطمئنانه، إضافة إلى الحاجة إلى الأمن في المستوى الفكري بخاصة، بكل أبعاده ومفاهيمه؛ من حيث الأمن العقدي ومقتضياته من حيث الاستجابة والاتباع والتطبيق، والأمن العقلي والنفسي؛ لأن الإنسان فردا ومجتمعا، لا يستطيع مطلقا، بدون الحصول على الأمن، أن يحقق حياته الإيجابية الفعالة المقيمة للحضارة والعمران.
ولأهمية ذلك الأمن وخطورته البعيدة المدى في حياة الإنسان، امتن الله على عباده بهذه النعمة العظيمة، كما في قوله تعالى: «الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف» قريش 4، وبهما تصح الأبدان، وتنعم الأوطان، وجاء في الحكمة: «نعمتان مجحودتان؛ الصحة في الأبدان، والأمن في الأوطان» ومن هنا تكون حاجةُ الفرد، والمجتمع، والوطن، لأن يعيش آمنا من أي تهديد، مستقرا في محيطه، وفي مجالاته الفكرية والنفسية، حاجةً ملحة، ومطلبا ضروريا، تحتل في أهدافه وغاياته، المحل الأعلى، وتمثّل الأولية الأولى.
وحين ننظر إلى ما يواجهه الوطن والأمة من مخاطر تهدد أمنه واستقراره، وما تفرزه من آثار ونتائج؛ من مثل ظواهر العنف والعدوان، والإرهاب والتكفير، واستباحة الأنفس المعصومة، والدماء المحرمة، والأعراض المصونة، أو ما يواجهه أحيانا من مشكلات البطالة والفراغ، والجرائم والسلوكيات المنحرفة، والفساد بكل أشكاله وألوانه.. الخ؛ ولو أرددنا أن نحدد تلك المخاطر والمهددات وبواعثها وأسبابها، لوجدنا أنها تكمن في مجملها وفي أهمها في الغالب في وجود الجرائم، ومخالفة أوامر الله!
فجرائم الذنوب والمعاصي ومخالفة أوامر الله عز وجل، وأوامر رسوله، صلى الله عليه وسلم، وتوجيهاته، وما ينشأ عن ذلك من فتن وشرور، وفساد، مهدد كبير لأمن الوطن والمجتمع؛ ولذلك يقول الله تعالى: « فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم» النور 63.
ولا أخطر على أمن الوطن والأمة والدولة، من ظهور الفساد والمفاسد ومخالفة أوامر الله الخالق، الرازق، المحيي المميت، مالك السماوات والأرض ومن فيهن وما فيهن، ومن له الأمر كله، الذي خلق الجن والإنس لعبادته وطاعته، وحده لا شريك له.
ولابد أن يكون من ضمن أدواتنا الأساس لمواجهة هذا (المهدد الخطر) لأمن الوطن، وهذا الخلل في سلامة التطبيق والاتباع، تعلم القرآن وتدبر معانيه، وتعلم السنة النبوية، والتفقه فيهما، والالتزام بتوجيهاتهما وتطبيقها، وهنا يأتي (العامل اللغوي العربي) متمثلا في (القرآن) و (السنة : كلام الرسول) صلى الله عليه وسلم)؛ فهما في ذاتهما (لغة) ولابد لفهمهما، وإدراك أسرارهما، وفقه أحكامهما لتطبيقها سلوكا بين أفراد المجتمع من معرفة اللغة العربية، ودراستها وفهمها فهما عميقا؛ لما يترتب على ذلك، ولما يؤدي إليه من منافع ومصالح، وأمن للفرد والجماعة والأمة والوطن والدولة؛ بل والحياة والأحياء بعامة، بتجنب المخالفات الشرعية، وتجنب الوقوع في المعاصي والآثام والفواحش، والجرائم بكل أنواعها.
ذلك أن الإنسان لغة، أو بعبارة أخرى اللغة هي الإنسان بكل ما فيها من مقومات وجوده وحياته الثقافية والروحية والفكرية؛ فهي أهم أدواته للحياة الاجتماعية بما فيها من فكر وروح وثقافة والتزام؛ ومن حيث إنها وسيلة العلم والمعرفة والفهم، والتواصل، والنهوض بالفعل الحضاري، ووسيلة التواصل والتوحّد والتفاهم مع أفراد الجنس والنوع، ووسيلة التعاون وبناء الخبرات، وتبادلها، ووسيلة حفظ الهوية؛ بوصفها المخزن المرجعي لها؛ وبها تتميز شخصية الفرد والأمة؛ وحين نتحدث عن اللغة العربية بالنسبة للأمة العربية والإسلامية، نجد العربية هي الوسيلة الوحيدة للتواصل مع رسالة الله، تبارك وتعالى، إلى الإنسان، قراءة وفهما وتدبرا واتباعا، وابتعادا عن هجران هذا الكتاب الكريم المقدس (انظر: أحمد موسى سالم ؛ قصص القرآن في مواجهة أدب الرواية و المسرح، بيروت- دار الجيل، 1977م، ص 260-2 61)؛ هذا الكتاب بكل ما فيه من تعاليم وتوجيهات وعظات، وتربية، وكم نخسر حين تغيب فينا هذه اللغة العربية المختارة من الله، عزّ وجل، أو نغيب عنها بهجراننا إياها، وبسوء عملنا، أو بجهلنا وأميتنا، أو بنقص قدراتنا العلمية!
إن نقصنا اللغوي العربي، وإن شئت فقل أميَّتنا اللغوية تمثل نقصا حقيقيا في كفاية المجتمع، وقدرته على العطاء، والأمم والدول تحرص على بذل كل إمكاناتها؛ لتقليل وجود مثل هذه الفئة الأمية، أو القضاء عليها تماما، وتقدمُ الأمم في هذا المجال دليلٌ على رقيها وتقدمها في مجال الحضارة والعمران، والأمن؛ ولأمر عظيم ما، كانت رسالة الله للإنسان، تبدأ بالقراءة وأداة الكتابة، قال تعالى: «اقرا باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم» العلق1-4. وبعد غزوة بدر الكبرى كان من وسائل فدية الأسرى أن يعلم الأسيرُ عشرةً من صبيان المسلمين القراءة والكتابة، ثمنا لحريته وإطلاق سراحه!
وحين يسود في المجتمع الجهل، ويغيب التعلم والعلم، وما ينتجه من غياب للوعي والإدراك، يسود الظلام في النفس وبالتالي في الفكر، وتحيط المخاطر والعدوان والمخاوف والقلق؛ لأن الجهل يعني وجود كيان إنساني بلا معرفة، وبلا خبرة، وبلا بصيرة مستنيرة، وبلا تمييز بين الحق والباطل، وبين الخطأ والصواب، وبلا قدرة على ممارسة الحياة على الوجه السليم الآمن المطمئن، وبلا قدرة على مواجهة أية احتمالات متوقعة تجابه الإنسان بالحلول السليمة المستنيرة الواعية، وينشأ عن هذا الجهل كثير من المشكلات الأمنية؛ من مثل المشكلات الاجتماعية، وما تفرزه من المشكلات النفسية، والعدوانية، والفكرية.
وستظل اللغة العربية وتعلمها والتعليم بها، البوابة الأولى، والمدخل الأساس لتحصيل العلوم، واكتساب المعارف، وأهم شروط القضاء على الجهل والتخلف، والضعف، والضلال، والمخاطر، وستظل من أهم معززات الأمن الوطني ومقوماته! وللحديث صلة.
** **
- محمد الزير