د عبدالله بن أحمد الفيفي
ألَّفَ (أبو العباس أحمد بن علي بن معقل الأزدي المهلَّبي، 644هـ= 1246م) كتابه «المآخذ على شُرَّاح ديوان أبي الطيِّب المتنبِّي»، وهو كتابٌ مهمٌّ في بابه، وفي دراسة تلقِّي شِعر أبي الطيِّب وفهمه عبر العصور. غير أن مَن يقرأ مآخِذَ ابن معقل لا يلبث أن يلحظ مآخِذَ عليه هو في مآخِذه نفسها. ولعلَّ (الواحديَّ) كان، في بعض شرحه شِعر المتنبِّي، أقرب من زميلَيه، (ابن جِنِّي) و(ابن معقل)، إلى استقراء السياق. شاهدُ ذلك أن (ابن معقل) خطَّأَ (ابن جِنِّي) و(الواحدي)، وهو المخطئ؛ لأنه لا يلتفت إلى سياق الأبيات، وإلَّا لوافق الواحدي. قال ابن معقل(1):
«وقوله:
لا تكْثُرُ الأمْواتُ كثْرَةَ قِلَّةِ
إلَّا إذا شَقِيتْ بكَ الأحْيَاءُ
قالَ [ابن جِنِّي]: قولُهُ: «كَثْرَةَ قِلَّةٍ»: يقولُ: إنَّما تكثرُ الأمواتُ إذا قَلَّ الأحياءُ، فكَثْرَتُهُمْ كأنَّها، في الحقيقة، قِلَّة.
وقوله: «شَقِيَتْ بكَ» أي: شَقِيَتْ بِفَقْدِكَ، فحذفَ المُضافَ وأقامَ المُضافَ إليه مَقامَهُ، وهذا كقوله تعالى: «ولكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بالله». وقَوَّى ذلك بما حكاهُ عن أبي عمرو السُّلَمِيِّ، قال: عُدْتُ أبا عليٍّ في عِلَّتِهِ التي ماتَ فيها، فاستنشدني:
لا تكْثُرُ الأمْواتُ كثْرَةَ قِلَّةِ
إلَّا إذا شَقِيتْ بكَ الأحْيَاءُ
فلم أَزَلْ أُنشِده وهو يستعيده، إلى أن ماتَ!
قالَ الواحديُّ: وهذا فاسدٌ من وجهَين:
أحدهما: أنه إذا مات واحدٌ لا يكونُ ذلك كثرةَ قِلَّة.
والآخَر: أنه لا يخاطَبُ الممدوحُ بمثل هذا. قال: ولكنَّ المعنَى أنه أرادَ بالأموات القتلَى، لا اللذين ماتوا قَبل الممدوح. ومعنَى «شَقِيَتْ بكَ» أي: بغَضَبك عليهم، وقتْلك إيَّاهم. يقول: لا تكثُر القتلَى إلَّا إذا قاتلتَ الأحياءَ، وشَقُوا بغَضَبك، فإذا غَضِبتَ عليهم وقاتلتَهم قَتَلْتَهم كلَّهم.
وأقول [ابن معقل]: إن قوله: إنه أرادَ بالأموات القتلَى لا الذين ماتوا بغير قتلٍ خطأ؛ لأنَّ في ذلك صَرْفَ الكلام عن ظاهره، وحَمْلَه على المجاز من غير عِلَّة مُحْوِجَة.
والمعنى: لا تكثُر الأمواتُ الذين في القبور إلَّا إذا غَضِبْتَ على الأحياء وقتلْتهم، فحينئذٍ تكثُر الأمواتُ بمن قتلْته لإضافتهم إليهم، وتلك الكثرةُ قِلَّةٌ؛ لأنه لا فائدةَ لهم فيها ولا انتفاعَ بها.»
والبيت الذي بعد البيت المختلَف على معناه بين الشُّرَّاح الثلاثة- (ابن جني) و(الواحدي) و(ابن معقل)- يفسِّر معناه، ويؤكِّد قراءةَ الواحدي، على الرغم من أنه لم يحتجَّ بذلك البيت. فالمتنبي يقول:
لا تكْثُرُ الأمْواتُ كثْرَةَ قِلَّةِ
إلَّا إذا شَقِيتْ بكَ الأحْيَاءُ
والقَلبُ لا يَنشَقُّ عَمَّا تَحتَهُ
حَتّى تَحُلَّ بِهِ لَكَ الشَّحناءُ
فـ«الأموات» يقصد بهم: القتلَى، الذين إذا حلَّت بقلوبهم الشحناء، انشقَّت عمَّا تحتها من مضمرات، فكان ذلك سببَ هلاكهم، رُعبًا من الممدوح، أو قتلًا على يديه.
وبذا فإن الواحدي على صواب. على أن لقراءة ابن جني وجاهتها أيضًا، غير المتعارضة مع السياق.
أمَّا فهْم ابن معقل، فلا تفسير له، ولا لقوله إن تفسير الواحدي صرفٌ للمعنى عن ظاهره، وأن الشاعر يقصد كثرة الأموات الذين في القبور، إلَّا انصراف ابن معقل إلى البيت مستقلًّا، مقطوعًا عن البيت بعده. إضافة إلى نزوعه الغالب إلى إظهار مخالفة الشُّرَّاح، بحقٍّ أو بباطل.
وهذا نموذج من نماذج ما كان يُحْدِثه إهمال السياق في تراثنا النقدي العربي من اختلافٍ في فهم النصوص ومِراءٍ بعدئذٍ لا طائل من ورائه. وإذا كان كتابٌ ككتاب ابن معقل في المآخِذ على شُرَّاح شِعر المتنبِّي يندرج في نقد النقد، أو قراءة القراءة في تراثنا العربي؛ فكم بالحريِّ أن تكون للمتلقِّي المعاصر ضروبٌ من (نقد نقد النقد)؛ كيلا تستمرَّ في إلهاء (بني يَعْرُبٍ) عن كلِّ مكرمةٍ قصيدةٌ قالها (أحمد بن الحُسين)!
-----
(1) (2003)، المآخذ على شُرَّاح ديوان أبي الطيِّب المتنبِّي، تحقيق: عبدالعزيز بن ناصر المانع (الرياض: مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلاميَّة)، 1: 17- 18.
** **
- (العضو السابق بمجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود)