د. عبدالحق عزوزي
مباشرة بعد إعلان استقالة وزير البيئة الفرنسي فرانسوا دو روجي على خلفية انتقادات له بالبذخ، واستخدام أموال الدولة لمصالح شخصية، أصدر الإليزيه بيانًا، يفيد بقبول الاستقالة، وتعيين خلف له. وقد وقع الاختيار على وزيرة النقل إليزابيت بورن التي شغلت مناصب إدارية عدة منذ عام 1990، من مستشارة إلى وزيرة للتعليم مرورًا بمستشارة تقنية لشؤون النقل سنة 1997. توالي استقالات وزراء البيئة أثار العديد من التساؤلات، وجعل البعض يقول إن هذا القطاع قطاع «ممقوت». ونحن نتذكر عندما قدم وزير بيئة فرنسي آخر في السنة الماضية، السيد نيكولا هولو، استقالته من الحكومة موضحًا أنه شعر «بأنه يعمل بمفرده» بشأن التحديات البيئية. وقال: «إنه أصعب قرار أتخذه في حياتي. لا أريد الكذب بعد الآن، ولا أريد أو أوحي بأن وجودي في الحكومة يعني أننا بمستوى هذه التحديات». وشعر هولو بخيبة أمل كذلك من جراء تراجع الحكومة عن هدف خفض مساهمة الطاقة النووية في مزيج الطاقة في الدولة بنسبة 50 في المائة بحلول عام 2025 في وقت اعتبرت فيه مفاوضات الاتحاد الأوروبي بشأن المبيدات مصدر إزعاج آخر بالنسبة إليه. ويعد سجل الرئيس ماكرون المتعلق بالبيئة غير واضح رغم أنه جعل مكافحة الاحتباس الحراري من أولويات سياسته الخارجية، وألغى مشروع إقامة مطار في غرب فرنسا لأسباب عدة، بينها المخاوف البيئية.
المشكلة العويصة التي تعاني منها مسألة البيئة في الحكومات الغربية هي مشاكل سياسية بالدرجة الأولى. ونحن قد رأينا في السنة الماضية ما وقع للرئيس الفرنسي عندما عارض المحتجون الضرائب التي فرضها على البنزين لتشجيع الناس على الانتقال إلى وسائل نقل أكثر ملاءمة للبيئة. وعلاوة على الضريبة، عرضت الحكومة حوافز لشراء سيارات كهربائية أو صديقة للبيئة. ومثلت الاضطرابات لمدة طويلة معضلة لماكرون الذي كان يصور نفسه بطلاً في مواجهة تغير المناخ، لكنه تعرض للسخرية لعدم تواصله مع الناس العاديين في وقت يقاوم فيه تراجع شعبيته.
ثم إن الدول الصناعية العظمى إذا ما جعلت لنفسها آذانًا صاغية للاتفاقيات الدولية وللتقارير الجادة فإنها ستكون مضطرة لإعادة نمط حياتها الاقتصادية، والتفكير في شركات صديقة للبيئة، ومساكن تُبنى بطريقة غير ملوثة، وهذا ما سيكلفها اقتصاديًّا وانتخابيًّا؛ إذ يخاف عمار الرئاسيات في تلكم البلدان من التصويت السلبي للوبيات المالية والصناعية.
ولا جرم أن هناك غضبًا من كل الفاعلين الدوليين ذوي النوايا الحسنة من دول ومنظمات ومؤسسات دولية وأفراد بعد التراجع الكبير والمؤسف عن الاتفاقيات التي أُبرمت في السنوات الأخيرة لصالح البيئة ومستقبل الكون والبشرية، خاصة بعد قرار الإدارة الأمريكية الانسحاب من الاتفاقية الدولية للمناخ، وهو غضب مشروع؛ لأن المجهودات الدولية التي تابعناها منذ أزيد من عقد من الزمن، التي كان أبطالها أفرادًا دوليين نافذين، ومنظمات دولية ومؤسسات حكومية وغير حكومية، ومنظمات أهلية، وصُرفت فيها الملايين من الدولارات، وشهدت الكثير من المفاوضات الدولية الشاقة، قد توقفت أو قد تتوقف ولو بعد حين، بسبب الانسحاب التدريجي لأقوى الدول وأكثرها تلويثًا للبيئة؛ لأنها غير مستعدة لإعادة هيكلة صناعاتها وطريقة عيشها، ولأنها تفكر في أصوات الناخبين واللوبيات الصناعية النافذة.
الاتفاق كان قد وقَّعت عليه 194 دولة، ويتعهد المجتمع الدولي بحصر ارتفاع درجة حرارة الأرض وإبقائها «دون درجتين مئويتين» قياسًا بعصر ما قبل الثورة الصناعية، وبـ «متابعة الجهود لوقف ارتفاع الحرارة عند 1,5 درجة مئوية». وهذا يفرض تقليصًا شديدًا لانبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري باتخاذ إجراءات للحد من استهلاك الطاقة والاستثمار في الطاقات البديلة وإعادة تشجير الغابات.كل هاته البنود التي سطرت في باريس، ثم مراكش، لم تعد ذات جدوى؛ لأن النظام الدولي الحالي تغير مع وصول الرئيس ترامب إلى الحكم؛ فكل المحللين الاستراتيجيين، بمن فيهم الأمريكيون أنفسهم، يرون أن دول العالم الموزعة بنمط يشبه لعبة الشطرنج المعقدة (على رقعة الشطرنج العليا توجد دول كالولايات المتحدة، وعلى رقعة الشطرنج الوسطى دول كالصين واليابان) يبنون استراتيجيتهم وفقًا لقاعدة «دولتي أولاً»، و»مصلحة دولتي الاقتصادية أولاً». وبمعنى آخر، فإن العلاقات الدولية تغيرت في الكثير من تجلياتها، كما أن السياسات الحمائية والانكماش الاستراتيجي والتغيير التكتيكي غيّر الكثير من الأمور من نظرة الدول العظمى لمصالحها، وفي تعاملها مع النظام العالمي الجديد؛ وهو ما يجعل جُل الاتفاقيات الدولية عن المناخ متوقفة.