د. عيد بن مسعود الجهني
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه (سورة الإسراء، 1)، وفي كونه من المساجد التي تشد إليها الرحال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسج الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) رواه البخاري.
والتاريخ يؤكد أن العرب هم السباقون في تشييد مدينة القدس وبنائها قبل فتحها على يد المسلمين بحوالي 5200 عام، واستشعاراً من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأهمية القدس فقد حث المسلمين على فتحها، وفي السنة السابعة للهجرة عام 629 جهز حيشاً بقيادة زيد بن حارثة رضي الله عنه لفتحها، ثم قاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- جيشاً بنفسه لفتح المدينة ثم عاد بعد أن صالح أهل (إيلياء) العقبة، وفي السنة الحادية عشرة للهجرة جهز -صلى الله عليه وسلم- جيشاً ثالثاً بقيادة أسامة بن زيد -رضي الله عنه- لكنه انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل مغادرة الجيش.
وقد حمل الرسالة من بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- الخليفة أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- مُصرًّا على أن ينفذ وصية الرسول فبعث الجيش الذي سبق أن جهزه الرسول بالقائد نفسه الذي اختاره وهو أسامة بن زيد -رضي الله عنه-، وإن كان ذلك الجيش لم يبلغ القدس فقد نجح في إخضاع بعض القبائل، ثم أرسل الخليفة أبو بكر جيشاً آخر لفتح بلاد الشام كلها فكانت معركة اليرموك الخالدة بقيادة خالد بن الوليد -رضي الله عنه-.
وفي عهد الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جهز جيشاً بقيادة أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه-، فحاصر المدينة، وخرج الروم طالبين الصلح، مشترطين أن تسلم المدينة إلى الخليفة عمر، وبعد أن استشار الخليفة أصحابه قدم من المدينة المنورة إلى القدس، وعند قدومه خرج القادة المسلمون لاستقباله وقدم إليه وفد من الروم من أهالي (إيلياء)، ومن هنا سار أمير المؤمنين إلى مدينة القدس، فدخلها في السنة الخامسة عشرة للهجرة (636م)، حيث استقبله بطريرك المدينة والأساقفة والقسيسون والرهبان فكتب لهم الخليفة عمر وثيقة الأمان التي عرفت فيما بعد (بالعهدة العمرية).
الوثيقة التي أعطى بها عمر -رضي الله عنه- الأمان لأهل القدس تؤكد عدالة المسلمين وتبرز تسامحهم حتى وهم في مركز القوة والقدرة وتؤكد الوثيقة أيضاً أن المسلمين عرفوا ما يسمى اليوم بحقوق الإنسان قبل أن يعرفها العالم ويقننها القانون الدولي الإنساني بقرون عديدة.
وإذا كانت القدس عاصمة عربية المنشأ فإنها قد أصبحت منذ فتحها في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مدينة إسلامية عربية بمعالمها التاريخية والحضارية، وظلت كذلك منذ ذلك الوقت وحتى عام 1366هـ- 1948م إذا استثنينا فترة الحروب الصليبية ما بين 1099- 1187، حيث استطاع المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله-، تحرير المدينة المقدسة في معركة حطين الخالدة يوم الجمعة 27 رجب 583هـ- 12 أكتوبر 1187م.
اليوم ما يراد بالقدس أمر خطير، وما تفعله إسرائيل حتى الآن إنما هو إرهاصات لذلك المخطط التآمري لتهويد تلك المدينة العزيزة على قلب كل مسلم وكل مسيحي، والسيطرة عليها سيطرة كاملة بعد تهويدها.
والمتتبع للسياسة الإسرائيلية تجاه القدس منذ احتلالها عام 1967م، يتضح له أن الدولة العبرية التي اعتبرت المدينة المقدسة عاصمة أبدية لها، تهدف إلى السيطرة على نسبة تصل إلى 86 في المائة من مساحة القدس الشرقية، والتخلص من السكان أصحاب الحق الأصليين.
وفي ظل ضعف عربي وإسلامي وتشتت وتفرق وانكسار، وحالة من الخوار والتمزق وصراع فلسطيني- فلسطيني غير مسبوق على سلطة مفقودة، وخروج دول عربية بعد ثورات عديدة من منظومة الأمن القومي العربي، كالعراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال والسودان حديثاً وموجات من الإرهاب الأسود والتمدد الإيراني و(قوة) شوكة الدولة العبرية مدعومة بلا حدود أمريكياً وغربياً ورفع قانون الغاب رأسه عالياً في ظل غياب مطبق للعدالة والشرعية الدولية وبروز لغة (القوة).
في ظل هذا المشهد العربي والإسلامي والدولي أصدر الرئيس الأمريكي ترامب قراراً بغيضاً حاسداً متكبراً متجبراً متهوراً في شهر ديسمبر 2017 مضمونه نقل سفارة بلاده إلى القدس الشريف، معتبراً أن القدس الشريف عاصمة أبدية للدولة العبرية، وهو لا يملك فيها ذرة رمل، وقد صوت ضد هذا القرار سيئ السمعة (14) من أعضاء مجلس الأمن ثم صوت ضده 128 من أعضاء الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
قرار سيد البيت الأبيض هذا يمثل تجسيداً للفكرة العنصرية المعادية للشعوب المستمدة من تعاليم التلمود ثم تليها في المرتبة مبادئ الحركة الصهيونية، كما قننها هيرتزل وجاكوبنسكي ولانداد وطبقها حاييم وايزمان وبن جوريون ومناحيم بيجن وجولدمائير وبيريز وشامير وأولمرت ونتنياهو وكل الجزارين اليهود.إسرائيل احتلت القدس مع الأراضي الفلسطينية، ولا سيادة لها على القدس في ظل القانون الدولي والشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة، وأن كل ادعاءاتها بسيادتها عليها بتأييد صارخ من الرئيس الأمريكي ترامب هي باطلة بطلاناً مطلقاً.
إذا الاحتلال بالقوة لا يترتب عليه نقل سيادة البلد المحتل إلى الدولة المحتلة من دولة الأصل صاحبة الحق، وهذا من أهم المبادئ الأساسية التي أقرها القانون الدولي، وأيدتها القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومنها القرارات ذات الأرقام 2253 (1967)، 2254 (1967) وكذلك القرارات الصادرة من مجلس الأمن ذات الأرقام 242 (1967)، 252 (1968)، 267 (1969)، 271 (1969)، 298 (1971)، 338 (1973)، 1397 وغيرها من القرارات.
مدينة القدس التي اعتبرتها إسرائيل عاصمة أبدية ودائمة لها وأيدتها في ذلك الولايات المتحدة بقرار الكونجرس الأمريكي بتاريخ 28 سبتمبر 2002 واستغله الرئيس ترامب ليصدر قراره البغيض بضم القدس الشريف إلى الدولة العبرية كعاصمة لها تمر بأخطر مراحل قضيتها، فعلى العرب والمسلمين أن ينهضوا ويهبوا هبة رجل واحد فإن القدس سوف تضيع، ولن يمر وقت طويل حتى تصبح مدينة يهودية، وسوف ينهار المسجد الأقصى الذي تجري الحفريات وتشق الأنفاق تحته ومن حوله، وحينئذ لن ينفع الندم ولن يفيدنا لطم الخدود وشق الجيوب، وسيكتب عنا التاريخ أننا الجيل الذي أضاع القدس.
إن من واجب الأمة لملمة الصفوف من أجل إنقاذ القدس وأهله، وعقد المؤتمرات الإسلامية والعربية، ومدها لتشمل مؤتمرات وندوات وإجتماعات مع الإخوة المسيحيين في أنحاء العالم بمختلف طوائفهم فهم الذين خصهم الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بوصيته العمورية، وهم الذين سلموه مفاتيح المدينة.
وإذا تم هذا المشروع الخيّر لقادة وعلماء وحكماء الأمتين للعمل صفاً واحدا لإنقاذ القدس الشريف من براثين القوة والاحتلال الإسرائيلي المدعوم أمريكياً خاصة إذا خرج من رحم التوافق الاسلامي- المسيحي منظمة أو هيئة عالمية هدفها الدفاع عن القدس وأهله من المسلمين والمسيحيين وانتشاله من براثن الاحتلال الصهيوني، ويمتد هدف هذه المنظمة إلى دعم القضية الفلسطينية ودولتها المستقلة، خاصة أن دول العالم والأمم المتحدة -ما عدا أمريكا- كلها تعترف بالقدس عاصمة للدولة الفلسطينية وتقف ضد الاحتلال الإسرائيلي للقدس وفلسطين كلها. هذا التوجه الإسلامي- المسيحي سيبرز على المستوى الدولي بالضغط على مجلس الأمن والأمم المتحدة والمجتمع الدولي لتنفيذ قرارات المنظمة والمجلس بشأن القدس، ومنها قرار المجلس رقم 478 (1980) الذي أكد فيه أن قانون الكنيست الإسرائيلي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل هو قرار باطل ولا يترتب عليه أي أثر قانوني وأنه على كل الدول الالتزام بعدم نقل بعثاتها الدبلوماسية إلى القدس، كما أن على المنظمات الإسلامية والعربية والمسيحية رفع قضايا ضد إسرائيل وقادتها إلى المحاكم الدولية المختصة، وإذا أبطلت قرارات إسرائيل بشأن القدس بطل معها قانونا قرار السيد ترامب الخبيث.
إن المسلمين والمسيحيين الذين يكونون نصف سكان العالم ومعظم الثروات في أيديهم والمكنة الإعلامية التي هي سلطة رابعة تسيرها أموالهم وعنصرهم البشري.
ومن يملك الحق.. يملك القوة.. التي تنتشل القدس الشريف من براثين الظلم .
عصر قانون القوة وقانون الغاب.