لدي هاجس من أين تأتي لسليمان السليم تلك القوة الأخلاقية للاستقالة. يقول حسام الشيخ «لم تزل استقالة الدكتور سليمان من منصبه وزيراً للمالية تشكل علامة استفهام كبيرة» ويكتب حسين التكمجي «فهو الوزير الأول والأخير الذي يقدم الاستقالة من وزارة يسيل لها لعاب الكثيرين» ويرى رشيد الخيون «إنها حسبت له مأثره» ويذكر إبراهيم العواجي «أنه انسل من الموقف بشجاعة» ويرى عبد العزيز الدخيل «أنه قد يرى ما يخالف الضمير ولأن مساحة الصدور محدودة يصبح الخروج أريح» ويعلق إبراهيم التركي «وربما بدا أنه أراح» وتكتب زوجته «غادرنا وصندوق الأسرار مغلق بمفتاحين».
فلنفتح المفتاحين وإن كان بصعوبة. لكن قبل ذلك من هو سليمان السليم؟ عرفته لماما. ولم أشأ أن أكتب حين طلبت زوجته ذلك فمعرفتي به محدودة. سأعتمد إذن في التعريف به بما يقول عنه المؤبنون في كتاب من تحرير زوجته نورة الشملان «أقلام تروى» الذي يحتوي على مقدمة موجزة وأطنان تزيغ البصر من أشخاص ذوي شهادات علمية عليا ومناصب راقية في الحكومة والمجتمع. 251 فرداً منهم 30 امرأة (في السعودية !!) وحوالي 53 بيت شعر كان المتنبي فيها حاضراً بجلاء وكأننا نقرأ عن محترف أدب لا عن وزير تجارة ومالية. ذاك محيطه.
قتل جد والده الأمير زامل السليم أمير عنيزة في معركة المليداء وأسر جده عشر سنوات مات بعد خروجه من الأسر بقليل، واضطر والده عبد العزيز للتنقل بحثا عن الرزق بين عنيزة والبصرة والبحرين والخبر. استأجر بيتا في الزبير حيث درس الابن سليمان في مدرسة النجاة الشهيرة وربما هناك انغرس فيه حب اللغة العربية والحرص على سلامتها وتمثل قيمها المختزنة في مفرداتها العديدة كالكرم وعزة النفس.
ولد سليمان في عنيزة وكان يعمل في إجازة الصيف لمساعدة الأسرة كمؤذن فترة ثم في بقالة ثم كمراسل (Office Boy) في أرامكو. تعلم في ثلاث جامعات عريقة القاهرة وجنوب كاليفورنيا ( USC ) وحصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة جون هوبكنز المرموقة. اشتغل في وزارة العمل ثم وكيلاً لوزارة التجارة فوزيرا للتجارة عشرون عاما فوزيرا للمالية لأشهر قليلة. وبعد التقاعد كان رئيسا لمجلس إدارة مصرف لخمس سنوات فعضو مجلس إدارة شركة الزامل القابضة. وقبل ذلك كان يكتب عمودا أسبوعيا في اليمامة ثم الجزيرة وأعد وقدم برنامجين للتلفزيون السعودي، يكتب بعقلانية وفي أسلوبه طراوة كما يقول إبراهيم التركي. وحين قرأت كتابته الأنيقة في تأبين زميله في الدراسة والعمل غازي القصيبي عجبت من جمال الطرح الذي يضج حيوية وتعريفا بفن غازي. يقول المؤبنون.. وجه باسم ومحيا طلق، صوت هادئ، يسمع أكثر مما يتكلم، عاشق للكتب، يلعب الشطرنج، أنيق في ملبسه، رمزا للزهد، عشاؤه خبز وزعتر، اختار الكرامة وعزة النفس وحرص عليهما بمبالغة شديدة، آثر الهدوء على الصخب. وشاهد فيه محمد آل الشيخ هدوء المطمئن وتواضع الواثق. تختفي داخله شخوص.
تزوج نورة الشملان سنة 1969 التي خطبتها له أخته منيرة. واشترطت الشملان أن يوافق على إكمال دراستها ووفى بالوعد وساعدها كما تقول في أن تنهي دراستها حتى حصلت على الدكتوراه في الأدب العربي (بدرجة مرتبة الشرف). بعد البعثة الدراسية استأجرا بيتا في الملز به غرفتا نوم واحدة له وزوجته والأخرى للأقارب الذين يفدون للرياض ويصلون أحيانا إلى ثمانية ينامون على الأرض وتطبخ لهم نورة الرز واللحم أو الدجاج، فقد كان يعتبر نفسه مسؤولاً عن الأقارب. وإذ صار للزوجة دخل من التعليم في الجامعة صارت هي التي تدفع أقساط البيت الذي كان مستأجراً فاشترياه بالتقسيط. كان يرسل جزءاً من مرتبه للوالد في البحرين لتسديد ديونه كما كان يفعل من قبل وهو طالب في البعثة من مرتب البعثة . وحين كان وزيراً تقول زوجته «كان غيرنا يسافر بالطائرات الخاصة وكنا نسافر على حسابنا بالدرجة السياحية» وتروي ميمونة البسام انطباعها في أول زيارة لها لمنزل السليم «كنت متوقعة أن أرى قصرا وخدما وأبهة تناسب مركز صاحب الدار، ولكنني فوجئت ببيت بسيط لا يزيد عن بيت موظف عادي». كانت مساحة البيت 600 متر. وكانت قمة سعادته أن تجتمع الأسرة على الغداء. وتروي ابنته لينة أنه «يشرف على نومنا وتفريش أسناننا والتأكد من غطائنا في فصل الشتاء». فلنفتح المغاليق. مفتاحين. الوطنية وعنيزة. كانت تلك سنوات الطفرة (1980- 1970) تسلم ثلة من الدكاترة مسؤوليات وزارية أدهشت حينها الكثيرين. كانوا ليبراليين محافظين ذوي تعليم عالي جداً من أرقى جامعات الدنيا. ومنهم غازي القصيبي، وسليمان السليم، تصفهم الصحافة الأمريكية بمافيا جامعة جنوب كاليفورنيا. وصفهم غربيون بأنهم يدخلون ببلدهم القرن العشرين وهم يتجهون للخلف ويرونهم أن تحديث البلاد يتطلب النأي عن التغريب وحرصوا وهم في لجة التحديث على أن لا تفقد البلاد توازنها بفقد الروابط المجتمعية السائدة وهي الدين والتقاليد. ممشى صعب على حبل التحديث. ونجحوا في مسعاهم لنأيهم عن المال والإثراء الشخصي. لهم هدف واحد لا غير.. مصلحة الوطن. كان عصراً صعبا. زمن الطفرة في أسعار النفط وتدفق الإيرادات وتكالب الضغوطات الدولية. يكتب سليمان الذي كان المنسق السعودي في اللجنة الاقتصادية المشتركة مع الولايات المتحدة «كان معدل أعمار الفريق السعودي ثلاثين عاما ومتوسط أعمار الفريق الأمريكي خمسون عاما». أي مواجهة بين طرفين وكنا قد تجرعنا هزيمة 67 !!أية مسؤولية لإنجاز التحديث !!، كان العالم العربي آنذاك وما زال شديد الامتعاض من سلوك واشنطن في فلسطين. ويكتب سليمان آنذاك أن المملكة «تدرك أهمية التعامل مع الدول الكبرى» وبصلابة وثقة سار التعاون والتحديث.
كانت وزارة التجارة في الواجهة مع المستهلكين من جهة ومع التجار من جهة أخرى. وخلال عشرين عاما في وزارة التجارة واجه الوزير عددا من الأزمات الاقتصادية من غلاء أسعار وتوفير مواد غذائية وغيرهما. وكان النقد يتعالى في الصحافة على أداء الوزارة وتصرف سليمان بحزم وترفع حتى أن صديقه غازي القصيبي كتب مستغربا كيف تمكن من ذلك دون أن يسيء لأحد أو يسيء له أحد. استدعى دفاعا قويا كما في كرة القدم التي يحبها مثلنا، استدعى عبد الرحمن الزامل المعروف بوطنيته ونزاهته ونبرته العالية واللاذعة أحيانا في الرد على منتقدي الوزارة ليكون وكيلاً للوزارة. وبذلك تجاوز الأزمات دون إصابات كما يقول.
كان ليبراليا يرغب في تنمية المجتمع المدني إذ تبنى ودافع وأقنع المسؤولين بالحفاظ على طريقة الانتخاب في غرف التجارة التي شهدت عصرها الذهبي في وقته. كما تدخل في قضية النساء اللواتي سقن السيارات متحديات عرف قائم ضد سياقة المرأة واعتبرن خارقات للتقاليد وفصلن من عملهن. ساعدهن في كتابة رسالة تشرح موقفهن. أوصل رسالتهن معرضا نفسه لاحتمال الانتقاد وغيره فعدن لعملهن. وكمن لا يخاف لومة لائم من زملائه الوزراء، كتب بعد تركه الوزارة مقالة عن سوق الأسهم يصف الحكومة بأنها أكبر هامور في السوق وأن عملياتها لا تتسم بالشفافية. كما نعرف ليبراليته من تعامله مع زوجته. وقد كان محافظا نعرف ذلك من حرصه على الصلاة في المسجد ومن تمسكه بشعر المتنبي. يصفه أسعد الشملان «شخصية محافظة إيجابية تكن الاحترام العميق لتجربة الجيل السابق». كان يوصي مندوب الوزارة المسؤول عن ضيوفها بأن لا ينسى «التمر واللبن» في أكلهم. وتبقى عنيزة المفتاح الثاني في شخص حفيد الأمير. «عنيزة وأسرتنا السليم وجهان لعملة واحدة كان يقول. وتقول لبنى العليان «لم يكن يترك فرصة في أي مناسبة عشاء إلا ويتكلم عن عنيزة» هناك في الأغوار. في الجينات. تحت الجلد عنيزة. الحيطة والريبة سمة معروفة في أخلاق النجدي بالإضافة للعزوف عن المظاهر. وكان فيه شخصيا من أخلاق الأمراء السخاء والأنفة والابتعاد عن ساقط القول والفعل. ويكتب سليمان «أعمارنا عواري» ولا أعرف معناها. إنها عبارة من هناك. من عنيزة. ومن لا يفهم لا يفهم !!،
ذاك هاجسي. للقوة الأخلاقية عند سليمان. لا يحتاج للمظاهر، يترفع، لا يريد المال. إنه فوق ذلك كله. في اللاوعي كان حفيداً لأمير عنيزة زامل السليم. أثر الأجداد في الأحفاد. يصف الرحالة الانجليزي شارلز داوتي (1878) الأمير زامل، «بأنه رجل ضئيل الجسم مهاب ولكنه ودود».
تقول زوجته، وعندما ودعته الوداع الأخير قبلته فانتقلت برودة جسده إلي كالتيار الكهربائي ولم أتركه حتى أتى من يأمرني بحزم بالمغادرة» وكتب أحد المؤبنين أنه مشى كيلومتراً في طابور العزاء حتى وصل بيتهم.
وتكتب نورة الشملان وقد كتبت من قبل 11 كتاباً «لماذا هذا الكتاب. كتاب العمر». دكتورة نورة.. لقد كتبتيه لتعريفنا بسيرة إنسان مثلك جدير بالمعرفة.
** **
محمد الشارخ - الكويت