د. محمد عبدالله العوين
- حتديني كم على الكتاب يا باشا؟
- اللي تأمر..
- ثلاثين جنيه، وحتروح معاي للهرم وبيعجيك غيره كثير وحتنبسط من اللي حتشوفه.
سألت عن موقع مستودع، فقال لي العارفون: ادفع وارتح، وخليك في مكانك هنا أنظف لك وأوفر لوقتك وجهدك.
حدثني أحد العارضين أنني بعد البحث والغربلة في مستودعات الهرم سأحتاج إلى تغيير كامل ملابسي لما سيلحقها من الغبار والأتربة.
قلت: توكل على الله، وسأنتظرك هنا أو قريبا منك في بسطات السور.
انطلق الصعيدي لا يلوي على شيء لتوفير ديوان «كثير عزة» والتقطت من معروضات السور نفائس؛ فقد وجدت كتاب (ليلى المريضة في العراق) بطبعته الأولى وعليه توقيع د. زكي مبارك بعد إهداء لطيف إلى: شكري بك زيدان. وهو ابن الروائي المؤرخ الكبير جورجي زيدان.
وهكذا بدأت فرائد الرصيف تتساقط في يدي، الأعداد الأولى من مجلة (الهلال) وأعداد من مجلات أدبية ثمينة كان لها في تاريخ الأدب العربي الحديث ومعاركه صولات وجولات كالرسالة، وكتب تاريخية وسياسية ومذكرات باعها ورثة أصحابها على تجار سور الأزبكية، وبعضها عليها أسماء مقتنيها في الصفحة الأولى أو كلمات رقيقة بتوقيع المؤلف وتاريخ الإهداء.
تكمن المشكلة بعد الاستمتاع بالجولة نهار يوم أو يومين في حمل وتغليف ما اقتنصته، وقد اجتمعت في ردهة الاستقبال بفندق (أمية) ثلاثة كراتين تحتاج إلى إعادة ترتيب وتغليف جيد للشحن، وكان سؤال النادلة اللطيف في صباح يوم تال وقد رأتني ألف اللاصق بطريقة محكمة وكأنني أحمي ذهبا أو ألماسا:
- إنت بتشتغل تاجر؟
- نعم..
- وأنا قلت شكلك عندك فلوس كتير!
- لو كان عندي فلوس كتير (يا ذات الغمازتين الرائعتين) لم أسكن هنا بستة عشر جنيها في الليلة، كنت سكنت في الشيراتون!
- إمال بتشتغل إيه؟
- صحفي
- أنهي جرنال؟
- جرنال سعودي.
- بيعرفك كل الناس، إنتو يا بتوع الجرايد ناس أكابر.
ودعت أرصفة 26 يوليو وطلعت حرب وميدان التحرير وكازينو قصر النيل والأزبكية والأوبرا وسفينكس وعدت للرياض محملا بكنوزي التي أقتصد في قراءتها؛ لئلا تنفد متعتها بسرعة، لم تكن لدينا سنوات ما قبل 1400هـ وما بعدها إلى عام 1420هـ أية وسيلة للانشغال أو التسلية غير الدراسة أو العمل أو القناة الأولى أو قراءة الصحف والمجلات والزيارات بين الأصدقاء، ولذلك كانت القراءة عند من يهواها خير وسيلة للمتعة والفائدة في الوقت نفسه، وكنت أضع جدولا لكل شهر أختار له خمسة أو ستة كتب حسب حجمها؛ إما دراسات أو مذكرات أو روايات، وأنجز ما أستطيعه منها.
كانت أنفع أوقاتي وأمتعها سنوات ما قبل زمن الإنترنت والبث الفضائي ووسائط التواصل التي أدخلتنا إلى زمن ثقافي جديد ومختلف؛ لكنه لن يغني بأي حال عن الكتاب.