د.فوزية أبو خالد
مشارك في تأسيس قسم الدراسات الاجتماعية
مطلع الثمانينيات الميلادية لم يكن قد مضى على انطلاقة قسم الدراسات الاجتماعية بجامعة الملك سعود/ «الجامعة الأم» (قسم الطلاب) إلا سنوات ليست بالبعيدة، أما فرعه بمركز الدراسات الجامعية للبنات (قسم الطالبات) فقد كان حديث عهد في التحول عن برنامج الانتساب للنساء لبرنامج الانتظام بقرار من وزير التعليم العالي وقتها الشيخ حسن آل الشيخ أحسن الله إليه. ولهذا فإن د. نظامي يعتبر - حسب علمي ومعاصرتي - من المشاركين بجدارة في تأسيس وتطوير قسم الدراسات الاجتماعية، بل إنه يعتبر مع عدد من الأساتذة السعوديين والعرب مايسترو انطلاقة برنامج الدراسات العليا للطالبات الذي ضم حينها ست عشرة معيدة، كن هن النواة المعرفية الأولى للكادر الأكاديمي «النسائي» فيما بعد لقسم الدراسات الاجتماعية بقسمَيه (علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية).
وقد قام د. نظامي بتدريس أجيال عدة من الطلاب و(الطالبات عبر ما كان يعرف حينها بالدائرة التلفزيونية المغلقة) إلا أنه قام بالتعليم والتدريب البحثي لعدد من طالبات الدراسات العليا، بل إنه أشرف إشرافًا أكاديميًّا مباشرًا على مجموعة من الرسائل العلمية لدرجة الماجستير والدكتوراه لاحقًا، إما رسميًّا، أو قراءة ومتابعة لعدد من الطالبات. وأذكر من زميلات وصديقات تلك المرحلة ممن تعلمن على يديه أو تواجدن ضمن الفضاء الجامعي لتلك الفترة (خيرية كاظم، سلطانة التويجري، سلوى الخطيب، عزيزة النعيم، لطيفة العبداللطيف, أديبة الشماس، أسما الخميس, منيرة العريك، هند خليفة, هيا المسلم، فاطمة باكلا، نورة ومها العيدان، منيرة الناهض، نوال آل الشيخ, وأنا).. (مع حفظ الألقاب للجميع فالغالبية أتمت المسيرة الأكاديمية).
حين باشر العمل د. محمد أسعد نظامي العمل لأول مرة قبل ثلث قرن تقريبًا بقسم الدراسات الاجتماعية بجامعة الملك سعود لم يكن هناك من أعضاء هيئة التدريس السعوديين سوى عدد قليل، بعضهم من خريجي جامعات أمريكية من دفعة ابتعاث السبعينيات، ومنهم «حسب المتاح معرفتهم لمواقعهم التدريسية والإدارية» رئيس القسم طيب الذكر المتنحي للتو حينها د. عبدالله البنيان كلله الله بالصحة، د. سعد الطخيس بروحه الوثابة ونفسه المطمئنة رحمه الله وأحسن إليه، ورئيس القسم العائد من ساعته أيضًا من أمريكا بشهادة الدكتوراه وبآمال شاسعة د. عبدالله الفيصل.. إلا أن كلاً منهم كان شديد الفخر بانضمام د. نظامي للقسم؛ فقد ربطهم به التخصص العلمي، وعرفوا قيمته العلمية والفكرية. وكان د. الفيصل تحديدًا يرى فيه مكسبًا للجامعة وللقسم لأكثر من سبب وجيه. ومن بعض الأسباب العديدة التي جعلت وجود د. نظامي وجودًا نوعيًّا متوقعًا في قسم الدراسات الاجتماعية بجامعة الملك سعود الذي كان ما برح في طور التطور (نهاية السبعينيات الميلادية وبداية الثمانينيات) كان تمرسه التدريسي والإداري عبر تجربته التعليمية والقيادية في عدد من الجامعات الأمريكية العريقة، مثل جامعة شيكاغو وجامعة روزفلت. هذا بالإضافة إلى معاصرة د. نظامي عددًا من الشخصيات الأكاديمية السيسيولوجية الأمريكية المؤثرة في المسيرة النظرية لعلم الاجتماع أثناء علمه وعمله بجامعات أمريكية مرموقة كجامعة كولومبيا، ومنهم بروفيسور روبرت مارتن صاحب نظرية المدى المتوسط السيسيولوجية التي قدم بها إضافة تجديدية على نظريات علم الاجتماع الشمولية التي قدمها العلماء الأوائل من أوجست كنت إلى دوركايم، بل كانت تنويعًا نقديًّا حتى على عمل أساتذة مارتن، مثل تالكوت بارسونز. ولا شك أن ذلك التأسيس النظري والمنهجي والأمبريقي الذي قامت عليه أستاذية د. نظامي جعلت منه أستاذًا متميزًا؛ فكان د. نظامي تالش متخصصًا موضوعيًّا فذًّا scholar بكل ما تعنيه الكلمة على المستوى البحثي وعلى مستوى أداء التعليم الأكاديمي.
وبقدر ما وهب حياته للبحث والتأليف فقد وهب حياته للتدريس. وإذا كانت مؤلفاته هي الأجدر بالكشف عن روحه العلمية العالية في الكتابة السيسيولوجية التي يتجاوز عددها بحوثًا وكتبًا ما يملأ رفًّا كاملاً في بيوت الكتب المتخصصة الجادة من مكتبة الكونجرس الأمريكية لمكتبة الملك فهد الوطنية بالمملكة العربية السعودية، التي تتنوع من الكتب الأولية في الدراسات السيسيولوجية مثل كتابه في مبادئ علم الاجتماع، وهو ليس أوليًّا بالمعنى التبسيطي للكلمة، بل بالمعنى التأسيسي, إلى أعماله من أمهات الكتب، مثل سلسلة كتبه الموسوعية (المدخل والمنهج والنظرية) قراءة المجتمعات، المعيار الاجتماعي، وكيف تفكر المجتمعات، فإن إضافتي المتواضعة في هذا المقال عن شخصيته المعرفية السامقة هي جزئية صغيرة ليس إلا، تتمثل في جانب مبسط من جوانب تلك الشخصية على مستوى تعليمي، وعلى مستوى إنساني مما عاصرته بالمعايشة أو كشاهدة عن قرب.
* * * * *
جاور د. أسعد والسيدة نجات تسعد
للأسف، لم يسعدني الحظ بأن يقف أمامي د. نظامي محاضرًا في حصة الدرس، بمعنى أنه لم يقم بتدريسي في أي مقرر محدد من مقررات علم الاجتماع كما حظي بذلك بعض الزميلات والزملاء من دفعتي، سواء المتخرجون مثلي بدرجة البكالوريوس من أمريكا، أو من مواقع أكاديمية أخرى.. إلا أني رغم ذلك أُعده أستاذًا من أساتذتي المتمكنين بالغي المعرفة والعطاء. فقد أسعدتني جيرتنا المشتركة بالسكن الجامعي بالدرعية من عام 1983هـ إلى عام 1987، ومن عام 1993 إلى عام 2006 أو قبلها بقليل، هو وزوجته في عمارة 6، وأنا وأطفالي في عمارة 3، ثم عمارة 4 وعمارة 5، بأن نعيش في المربع نفسه، ونتقاسم مرح الأطفال لملاعب 6 المشتركة بين سكنهما وسكني لردح طويل من زهرة العمر. عاصرنا في تلك الجيرة مد التفتح العفوي المستنير الأول أكاديميًّا وإداريًّا ومعيشيًّا بين الحرم الجامعي الدراسي بقسمَيه المنفصلَين أساتذة وطلابًا وأستاذات وطالبات، والسكن الجامعي بأطياف سكانه من أعضاء هيئة تدريس وقلة إدارية. كما عاصرنا مد التشدد والانغلاق ورفع سقف المعازل وتخفيض سقف الحركة في الجامعة والسكن بطبيعة الحال.
وفي كل الحالات بين مد وجزر المناخ العام اجتماعيًّا، وبين انعكاساته على الأفق المعرفي، لم يبخل د. نظامي عليّ بلحظة تعليمية كلما استأنست برأيه، سواء في رسالتي للماجستير، أو في أطروحتي للدكتوراه، أو في بحوث أخرى كنتُ أستقرئه لها سعيًا لمشورة من ذي معرفة وخبرة ورأي سديد. وكان في ذلك عالمًا متساميًا وملاذًا موثوقًا. كان جوادًا بوقته، كريمًا بعلمه، نبيلاً في توجيه لا يجرح, عادلاً بموضوعية لا تتعالى, متواضعًا في القدرة على الأخذ بيدي إلى مكامن قوتي المعرفية ومزالق ضعفها, عنيدًا في دفعي لاكتشاف مجاهل جديدة من ملكات البحث العلمي وملكوته. ورغم أبوّته عمرًا وحنانًا لجيلي، وفي التعامل معي ومع «نديداتي» من الزميلات، بل إنه كان يعتبر أطفالي أحفادًا له، وطالما دعاني معهم وزوجته إلى طعام إيراني، وحلوى المن والسلوى والحلقوم والرمانية، فإنه في الجانب التعليمي لم يمارس تلك الأبوية «التتبيعية» التي كثيرًا ما يميل إليها بعض الأساتذة.
فقد كان - رحمه الله وطيب ثراه - عزيز نفس علميًّا، بمعنى مهني راقٍ شديد الانحياز لكرامة العلم. كان يحترم التعدد.. لم يبخل عليّ قط بالإعجاب باستقلالي الفكري والمعرفي في مجال علم الاجتماع السياسي وعلم اجتماع المعرفة بتوجهه «التقدمي» النقدي. وهو انسجام مع خطه المبدئي النزيه في العلم وفي الحياة.. لم يحاول يومًا أن يجعلني, لا أنا ولا طلابًا غيري من مريديه أو من مريدي مدرسته النظرية في مجال أطروحة علم الاجتماع الوظيفي ببُعديه الليبرالي والتجديدي.. ولكنه بالمقابل كعالم وكأستاذ بروفيسور كان حريصًا كل الحرص على إتقاننا المنهج العلمي، وعلى تسليحنا النظري بتعدده، وعلى تعليمنا كيفية التفوق على أنفسنا، وعلى طيش الشباب، وعلى مشارب الهوى، بحيث يكون اتجاهنا الفكري أيًّا كان اتجاهًا مبنيًّا على منهج علمي دقيق، وعلى تمكُّن نظري تحليلي. كان يمدني بالمراجع القديمة والحديثة، ويعيرني كتبًا من مكتبته الشخصية، أو يستعيرها لي باسمه من مكتبة (الأمير) الملك سلمان بجامعة الملك سعود؛ إذ لم يكن يتسنى لنا زيارتها كطالبات إلا مرة واحدة في الأسبوع. قرأتُ على يديه علماء عدة من علماء نظريات علم الاجتماع، وأعدتُ قراءة بعضهم على ضوء تشريحيته النظرية العميقة من ماكس ويبر إلى مارجريت مييد، وسواهما من علماء علم الاجتماع والإنثروبولوجيا المؤسسين والمتأخرين معًا.
* * * * *
لمحة أخيرة
أضعتُ مرة وأنا معيدة صغيرة عشرة آلاف ريال، كنتُ قد استلفتها من البنك لعلاج أسنان جدتي لولوة - رحمها الله - ولما بحثتُ عن مظروفها في كل مكان ممكن لأسبوعين ولم أجدها أخذتُ الله خلفًا وعوضًا، فإذا بي أُفاجَأ ذات مساء لا أنساه بعد شهر تقريبًا من ضياع ذلك المال بالسيدة نجات زوجة د. نظامي تدق عليّ الباب في شقة 10 عمارة 3، وتعطيني ظرفًا وجده د. نظامي مفتوحًا مليئًا بالريالات حينما تناول كتابًا من رف مكتبة بيته، كنتُ قد أعدته له بعد استعارة.. ويبدو أنني بطريق الخطأ وضعتُ الظرف بداخل الكتاب. وكان ذلك من المواقف السامقة المرحة التي طالما ضحكنا عليها في مسيرة معرفتنا وصداقتنا التي امتدت بعد ذلك ما يزيد على عشرين عامًا.
رحم الله د. نظامي، وأكرم مثواه الأخير في جواره العظيم، وحفظ زوجته الغالية السيدة نجات ومحبيه ومريديه وطلابه وطالباته، وأحسن الله كل الإحسان لابن أخته د. محمد صائب الذي راسلني وطلب مني الكتابة عن د. نظامي لكتاب يعده عنه وفاء له، فإذ به بهذه اللفتة من الوفاء يتيح لي فسحة لأسدد دينًا معرفيًّا في عنقي وعنق أجيال من طلاب العلم وأساتذته بجامعة الملك سعود لأستاذ الأساتذة د. محمد أسعد نظامي.
ولعلي من هذا المنبر الكريم أطلب ممن عرف د. نظامي عن قرب علمي، ولديه كلمة حق في حق د. نظامي، أن يكتبها لتكون في كتاب الوفاء لهذه الهامة العلمية المهيبة.
* * * * *
وليس أخيرًا
تحية للأستاذ الدكتور حمزة قبلان المزيني على تغريدته المعبرة عن زميله بروفيسور نظامي. ود. المزيني قامة معروفة بصداقتها المعرفية للقامات مثل د. نعومي تشومسكي.
وتحية للغالية أ. سلطانة التويجري على تغريدتها البهية عن تجربتها مع د. نظامي بوصفه مشرفًا على أطروحتها العلمية للماجستير في علم الاجتماع.
التحية أيضًا لدكتورة خيرية كاظم التي كتبت تعليقًا جميلاً على مقالي (الجزء الأول) عن د. نظامي، وقد كان مشرفًا على أطروحتها العلمية المهمة في التحليل العلمي لأحوال النساء في سجون النساء.
حقًّا كان د. نظامي أستاذًا للأساتذة رحمه الله.