د.عبد الرحمن الحبيب
هل تصوّرت كتابة اللغة العربية بأحرف غير عربية؟ ربما رأيت مقاطع من ذلك في الإنترنت برموز وأحرف لاتينية، لكن ثمة أدباً عربياً زاخراً مكتمل البناء مكتوباً بأحرف عبرية منذ قرون؛ ويعد من فروع الأدب المدروسة باللغتين العبرية والإنجليزية، إلا أنه غير معروف في أدب اللغة العربية. عبدالرازق القوسي الباحث المختص بتاريخ اللغات، كسر صمت قرون بكتابه الجديد «اللغة العربية اليهودية، ورحلة الفرع المجهول من الأدب العربي».
للوهلة الأولى، بدا لي عنوان الكتاب غريباً، وربما مستفزاً، إذ يمكن أن يكون «اللغة العربية العبرية»، لكن يبدو أن «اللغة العربية اليهودية» اصطلاح قديم وشائع في فروع اللغات اللاتينية كما وجدته بالإنترنت باللغتين الإنجليزية والفرنسية. وهنا نعمل بقاعدة قدماء النحاة «لا مُشاحة في الاصطلاح»؛ فمصطلح «العربية اليهودية» تم التواضع عليه بأنه ما كُتب باللغة العربية أو أي من لهجاتها بالحروف العبرية. وهذا ما طرحه الكتاب الذي تناول التعرّف على هذه اللغة، وعلى زمانها ومكانها، وأهميتها لدى العرب، ثم طريقة كتابتها ونظامها الإملائي مع نماذج لها، وحركة النشر بهذه الكتابة.. وأخيراً طرح المؤلف استنتاجاته وتوصياته.
ثمة استفهام آخر: من يستخدم هذه اللغة حاضراً وماضيا؟ يجيب الكتاب بأن تقدير عدد مستخدميها بالوقت الحاضر يتفاوت بين نصف مليون إلى ثمانين ألفاً، نتيجة اختلاف طبيعة الإحصاءات، فالأول يحسب من يستطيع استخدامها من اليهود ذوي الأصول العربية، بينما الثاني يقدِّر من يستخدمها بشكل عملي. أما في الماضي، فيوضح الكتاب أنه مع شتات اليهود عبر القرون في أصقاع العالم أصبحوا يتحدثون بلغات الشعوب التي يساكنونها، ولكي يحافظوا على ثقافتهم الخاصة كتبوا بعض إنتاجهم الثقافي بتلك اللغات التي يفهمونها بحروف عبرية وليست بحروف اللغة الأصلية. نتج عن ذلك عشرات اللغات المكتوبة بالعبرية، لكنها ضعفت أو انقرضت مع قيام «إسرائيل» وهجرة كثير من اليهود إليها وانصهارهم في اللغة العبرية.
أكبر لغتين خلفهما هذا التراث اليهودي هما الييدش واللادينو. الأولى لهجة ألمانية ترجع للقرون الوسطى، نتج عنها تراث ضخم وصارت أهم لغة لليهود منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى إنه كان يفترض أن تكون اللغة الرسمية لدولة «إسرائيل»، لولا أنه تم التراجع عنها واختيرت العبرية. أما الثانية فهي لهجة إسبانية قشتالية نشأت بالأندلس إبان الحكم العربي، ولما طرد العرب من إسبانيا طرد اليهود معهم واستقروا بشمال إفريقيا وتركيا والبلقان.
زمن اللغة العربية اليهودية يُقسم غالباً إلى ثلاث مراحل. الأولى مبكرة قبل ظهور الإسلام لم يحفظ منها شيء، لأنها كسائر الأدب العربي آنذاك تُنقل شفهياً عبر الشِّعر غالباً، ومن أشهرهم الشاعر السمؤال. المرحلة الثانية وسطى مع الفتوحات الإسلامية حتى القرن 15 الميلادي، امتدت من الهند شرقاً إلى الأندلس غرباً؛ وحينها أصبحت العربية لغة غالبية يهود العالم. المرحلة الثالثة الحديثة استخدام فيها اللهجات العربية الدارجة، وازدهرت بأواخر القرن 19 وأوائل القرن 20 مع انتشار المطابع والمجلات، ثم اختفت مع قيام «إسرائيل».
يؤكد المؤلف أهمية اللغة العربية اليهودية لدى العرب لأنها من أشكال الأدب العربي، وهي تجربة فريدة في الكتابة. ويرى أنها تمثِّل التمازج والتعايش اليهودي العربي واليهودي الإسلامي. كما أنها توضح حياة اليهود وطرق عيشهم وسط المجموعات العربية الإسلامية.. إضافة إلى أن كثيراً من الكتب العلمية كتبت بالعربية اليهودية.. وبعد كل ذلك فهي مهدَّدة بالانقراض!
يختار المؤلف عينات من نصوص هذه اللغة من كتب لغوية ومعجمية وأدبية، بعد إعادة كتابتها بالحروف العربية؛ مثل نص نحوي للعالم اللغوي أبي زكريا يحيى بن حيوج الفاسي (ت عام 1000م) الذي اكتشف أن الفعل في العبرية يعتمد على وزن «پعل» كما وزن «فعل» باللغة العربية «.. ونص من كتاب «محاسن الأدب» ليوسف بن حسن عام 1467م، وآخر من كتاب «قانون النسا» مليء بالحكم والقصص ليوسف بن إليا الحكم من أهالي بغداد (ت 1905م). ويورد المؤلف القصة المفجعة للقديسة حنة وأبنائها السبعة التي وردت في سفر المكابيين الثاني تدور أحداثها سنة 166 ق م كتبت شعرياً على طريقة الزجل باللهجة الشامية، وقصيدة بعربية يهود المغرب عن زلزال أغادير المدمر..
بالجزء الأخير يستعرض الكتاب حركة النشر بالعربية اليهودية التي كانت مزدهرة في بغداد وتونس والقدس واسطنبول بعد انتشار الطباعة بالشرق الأوسط. الخاتمة طرحت بإيجاز مبتسر استنتاجات عن أهمية هذه اللغة، وأن العربية تعد اللغة الأطول زمنياً التي استخدمها اليهود، لذا يوصي المؤلف بتوجيه دراسات حولها، وإيجاد برنامج على النت يحوِّل الحروف العربية إلى العبرية والعكس، ونقل ما أمكن من هذا التراث إلى العربية.
الكتاب يمتد بنحو مئة صفحة، عرضت مواضيعه بطريقة تقريرية مقتضبة مع صور تاريخية وخرائط توضيحية مفيدة. ورغم أن الكتاب يحوي معلومات قَيِّمة ونادرة، إلا أنه يفتقر للضبط المنهجي والمعالجة الأدبية ويحتاج لمزيد من المعلومات والتحليل المنهجي. وربما عذر المؤلف أنه مبادر بهذا المجال، وأقصى ما يسعى إليه هو طرح الموجود المتواضع كفاتحة لمزيد من المعلومات والأبحاث والنقاش عن هذه الأعمال الأدبية الزاخرة التي قد يطويها النسيان وتنقرض.