عبدالله بن علي الغامدي
حتى الآن لم يحظ التخطيط الاستراتيجي بالقبول في معظم الأوساط الإدارية الحكومية، وربما نطاق واسع من منظومة القطاع الخاص. فلا نرى له منهجا أكاديميا يدرّس، ولا آلية عمل تحكمها أنظمة ولوائح، ولا ميزانيات تخصص للاستثمار في هذا الجانب الاستراتيجي بالغ الحساسية، وكل ما يحدث بشأن الخطط الاستراتيجية بعيدة المدى لا يتجاوز اجتهادات يسوقها الإعجاب بالمسمّى أحيانا، والمباهاة بوجود ملفات الخطط الاستراتيجية (باهظة الجهد والثمن) -أحيانا أخرى- حتى لو غطتها الأتربة على أرفف الحفظ.
وفي ظلّ الحراك اللامسبوق الذي يتزعمه قائد التغيير سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لتحقيق رؤية 2030 كان لزاما على الدوائر الحكومية أن تنفض غبار الفكر فلا تقف مشلولةً أمام طوفان التغيير بعد أن أعمل مركز قياس الأداء الحكومي أدواته لمعرفة الخلل والمضي قدما لتحقيق الإنجازات وكشف الانحرافات وإجراء التحسينات لكي تدور العجلة على الوتيرة المطلوبة، فلا مجال للمتفرج الذي يعيق حركة النمو.
لم تخل الساحة من وجود جهات برزت معالم قدرتها على ترتيب بيتها الداخلي لتتماشى مع الرؤية، في إطار (خارج) محددات الخطط الاستراتيجية بمبادرات تحسين مباشرة، واستطاعت خدماتها أن تظهر بصورة ملفتة في محيطها الخارجي، لتؤكد مخرجاتها -الإيجابية- أنها تجدف بقاربها في الطريق الصحيح.
النجاحات التي تحققها بعض الجهات دون أن تقيد نفسها بقوالب الخطط الاستراتيجية هي في واقع الأمر بمثابة القواعد المتينة التي لا يمكن للتخطيط أن تنطلق شرارته أصلا دون وجودها، ونسب الفشل التي تحظى بها معظم الخطط الاستراتيجية والتي تصل إلى 70 % يعزى إلى المزج بين الإصلاحات الحتمية (التحسينات) والأهداف الإستراتيجية المنشودة، ولا عجب.. فلا يمكن الركوب في قاطرة مهترئة للوصول إلى وجهة أخرى. والذي يتحتم أن تقوم به بعض الجهات هو في واقعه إصلاحات (تحسينات) تقتضيها طبيعة البنية التأسيسية التي ربما لم تنفذ بالطريقة السليمة أصلا أو شابها سوء استخدام مع تقادم الزمن أو أنها انحرافات يجب المبادرة في تقويمها واعتبارها إنجازات تحسين تحسب للجهة.
ولكي نسعى لتحقيق خططا إستراتيجية متوازنة تواكب الرؤية يلزمنا أن تكون الطرق ممهدة لنجاحها، وذلك بضمان الحد الأدنى من عوامل الأمان الحرجة (CSFs)، تلك العوامل في واقع الأمر بمثابة قوارب النجاة التي لا يمكن للسفينة أن تبحر بدونها. فلا يمكن مثلا أن يصاغ هدفا استراتيجيا لزيادة المبيعات إلى (20 %) بأسطول نقل متهالك أو بطاقم تسويق ضعيف، ولا يمكن أن يصاغ هدفا لزيادة الإنتاج إلى (25 %) مثلا بنظام آلي صناعي متقادم أو لا يعمل، فأولوية بناء الأهداف واستقلاليتها منهج يفرض نفسه عند إعداد الخطط.
ولتوضيح الصورة ففي مرحلة جمع بيانات الخطة الاستراتيجية، لإجراء ما يعرف بتحليل (SWOT) (القوة، الضعف، الفرص، المخاطر)، يجب أن يأخذ عنصر تحليل (نقاط الضعف) تركيزا خلاف الذي تحتاج إليه النقاط الأخرى من تحليل (SWOT)، إذ يجب فرزها بعناية، فإذا وجد منها نقاطا هي في أصلها إصلاحات، يجب علاجها قبل تاريخ بداية الخطة الاستراتيجية حتى لو أدى إلى تأخير الخطة.
هنالك أهدافاً ترسم معالم الاستراتيجية كونها نابعة من رؤية المنشأة ورسالتها، تلك الأهداف يجب التفريق بينها وبين المشاريع التي تعنى بإصلاحات البنية التحتية. ويمكن معرفة ذلك في مرحلة استعراض نقاط الضعف في تحليل (SWOT)، يجب الانتهاء من تلك المشاريع قبل المضي قدما في رسم معالم الخطة.
هذا لا يعني ألا تأتي تلك المشاريع الإصلاحية ضمن برنامج عمل مخطط ومدروس، إلا أن الحاجة تقتضي أن يتم تناولها بأولوية وعناية خاصة يراعى فيها عامل الوقت بالدرجة الأولى ثم رصد المبالغ وأخيرا الإشراف المباشر مع التأكيد على ضرورة الانتهاء منها أولا كي لا يكون تنفيذها عالة على أهداف الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى حتى لو اضطررنا إلى تأجيل الأهداف المعتمدة عليها حتى الانتهاء منها. ولتقريب الصورة نستطيع القول إن المشاريع الإصلاحية (التحسينات) هي بمثابة الصيانة الوقائية للطائرة (الخطة الاستراتيجية) قبل إقلاعها.
إن ما يحدث من مزج بين مشاريع الإصلاحات والأهداف بعيدة المدى المرجو تحقيقها، أو ربما اقتراح الشروع في تنفيذهما بالتزامن مع بعضها البعض، هو في الواقع إيذان بولادة خطة موءودة، والغالب أنها لن تنفذ المشاريع الإصلاحية ولا الأهداف بعيدة المدى بسبب ازدواجية الفهم واتكالية التنفيذ. وللتفرقة بينهما يمكن القول إنه بالإمكان تأجيل الخطة الإستراتيجية برمتها لكن لا يمكن بحال تأجيل الإصلاحات.
وإذا أسقطنا ذلك التصور على الجهات الحكومية -الوزارات والهيئات- والتوجهات الحديثة التي تحملها رؤية 2030 والتي تطالب الجهات بخطط واضحة المعالم وإنجازات ملموسة تساهم في تحقيق الرؤية العامة للدولة، ففي نظري معظم الجهات الحكومية لا تملك مقومات التخطيط الإستراتيجي، كونها لا تملك استقلالية القرار لارتباط تمويلها بوزارة المالية التي لا تراعي مفاهيم الخطط الاستراتيجية للجهات ولا تقيم لها وزنا. فكم من دراسات وتكاليف تكبدتها الجهات الحكومية ذهبت أدراج الرياح أثناء مناقشة الجهات ميزانياتها مع وزارة المالية.
وعلى الرغم من ذلك فإن فرص التحسين متوافرة إلى الدرجة التي تؤكد أن كل وزارة أو منشأة حكومية قادرة على أن تكون نموذجا مثاليا للإنجاز الفاعل، دون محددات خطط إستراتيجية وبنتائج عظيمة خالية من التعقيد، إذا ركزت الجهات على الإصلاحات الآنيّة بميزانياتها المتاحة واعتبرتها استراحة محارب حتى تنفك من نظام الوصاية الذي تمارسه وزارة المالية عليها.