د. محمد عبدالله العوين
حين استنفد البحث في المكتبات الشهيرة ودور النشر المعروفة في القاهرة؛ كمدبولي ودار الشروق المواجهة لها ودار المعارف ونهضة مصر وغيرها تقودني قدماي ليلاً إلى كتب ومجلات الرصيف في ميدان طلعت حرب والشوارع الرئيسية المتفرِّعة منه، أو في شارع 26 يوليو بجانب دار القضاء العالي أو بالقرب من مدخل فندق أمية التاريخي، أو على كبري قصر النيل بالقرب من الكازينو الشهير، ويتسامح بعض البائعين، وبخاصة تلك الأرصفة التي يرتادها السائحون في التعامل بمرونة شديدة في بيع الكتب أو تأجيرها، وقد كان استئجار الكتاب غير المهم الذي لا يستحق أن يحمل في الأمتعة أو عليه ملحوظات كثيرة يتمنع عندها مراقب المطبوعات في المطار أنجع وسيلة لقراءته وإعادته إلى بائعه في الليلة التالية أو التي تليها وبنصف قيمته، وتبدأ عملية استئجار أخرى لليال تالية لكتب جديدة، وهكذا.
ولكن النهار غير الليل، فسوق الكتب على سور الأزبكية لا يؤجر ولا يعرض فيه إلا ما يستحق الاقتناء، وأفضل الأوقات وأكثرها متعة حين تبدأ حركة التسوق في الصباح الباكر عند الثامنة صباحاً أو بعدها بقليل.
يتميّز سوق الكتب على رصيف سور الأزبكية في القاهرة برخص ثمن المعروض وتنوّعه وقيمته التاريخية؛ فقد وجدت كثيراً مما يمكن عده من النوادر التي تتيحها الصدفة بالعرض في هذا المكان من سور الأزبكية.
وأتذكر ذلك اليوم الذي عرفت فيه سور الأزبكية لأول مرة؛ فقد زرت القاهرة لأول مرة في عطلة عيد الأضحى 1399هـ وكنت طالباً في السنة الرابعة بالجامعة ومتشوّقاً إلى لقاء الأدباء والتعرّف عليهم واكتشاف كنوز القاهرة الثقافية، والتقيت فيها آنذاك بنجيب محفوظ للمرة الأولى، ثم تكرر اللقاء ثانية به عام 1409هـ قبل منحه نوبل بستة أشهر، وفي صبيحة يوم جميل وبعد تناول الإفطار على الشرفة المطلة المواجهة لدار القضاء العالي وبعد أن انتهيت من قراءة الأهرام من الصفحة الأولى السياسية إلى الصفحة الأخيرة الخفيفة، وضج الشارع بنداءات البائعين وتحياتهم الصباحية المرحة التي يتبادلونها عن بعد بصوت عال، وبقي شيء من رطوبة النيل تنعش ساعة الإشراق الأولى وتمنحها شيئاً من بهجة خفية وتشع فيها روحاً سعيدة متفائلة مقبلة على الحياة وبعد الكأس الثاني من شاي الفندق المنعنع ونادلته الرقيقة ذات الغمازتين الضاحكتين والعينين المحتشدتين بالأسرار نزلت أطلب سيارة أجرة إلى سور الأزبكية الذي أشار بضرورة زيارته بائع الصحف على الرصيف بجانب مدخل الفندق، وكنت أظن أنه مكتبات أو أكشاك فإذا هو عرض ممتد طويل على الرصيف يحيط بسور حديقة الأزبكية بميدان العتبة وميدان الأوبرا، كان الثمن بخساً والبضاعة نفيسة، وكنت آنذاك حفياً بدواوين عشاق العرب -ولا زلت- وأفتقد ديوان كثيِّر عزة بطبعة نظيفة وسألت أحد البائعين؛ فقال موجود يا بوي (قال ذلك بلكنة صعيدية) لكن حتروح معاي مكان تاني، قلت: إلى أين: قال إلى المستودع في شارع الهرم، وحتشوف حاجات كتيرة بتعجبك! يتبع