هالة الناصر
ارتبطت في أذهاننا ونحن صغار، صورة المجتمع الجميل المتقارب الذي يعيش كل أفراده بالقرب من بعضهم البعض وكأنهم عائلة واحدة كبيرة، يتشاركون الأحزان والأفراح، ويجلسون معاً على موائد الطعام في المناسبات والأعياد، ويتقاسمون الذكريات الأثيرة والماضي الجميل، إلا أننا عندما كبرنا، وجدنا واقعاً مختلفاً، واصطدمنا بصورة مغايرة تمام لهذه الصورة الحالمة التي فوجئنا أنها أشبه ما تكون بمدينة فاضلة تلاشت مثل خيط دخان، غير التسارع التكنولوجي من طبيعة تعاطي الفرد مع محيطه المجتمعي، وبات يدفعه إلى الانعزال والتقوقع على ذاته، والعيش بشكل منفصل في حيز ضيق، بينما بنى لنفسه واقعاً افتراضياً وهمياً على أرض التكنولوجيا، وكوّن لروحه مجتمعاً زائفاً لا يمت إلى الحقيقة بصلة، وهذا هو أخطر سلبيات التقدم العلمي غير المسبوق الذي نعيشه الآن في مجال التقنية، حيث أنشأت وسائل التواصل الحديثة جزراً منعزلة لكل منا، وأجبرتنا على أن نحيا فيها منفردين، متوهمين أننا نسبح في الفضاء الفسيح، بينما كل منا حبيس غرفته لا تفارق عيناه شاشة جهازه ولا تترك أصابعه تلك الأزرار الباردة عديمة الحياة.. كم يؤلمك كثيراً عندما تكتشف أن هناك مناسبة أو موقفاً كان يجب أن تكون على اطلاع به بحكم جيرتك مع من حولك وكان يجب أن تتعاطى معه في حينه، إلا أنه غاب عنك ولم تصل أصداؤه إلى عالمك الضيق الذي وضعت خرسانات إنسانية على أطرافه كتبت عليها «ممنوع الاقتراب»، مما يخلق داخلك حالة من الشعور بالذنب تجاه مجتمعك وعائلتك، وقبلهم تجاه نفسك! الحق أن علاج هذا الوضع المؤلم ليس مستحيلاً، ولكنه يحتاج إلى الإيمان، نعم، إيمان كل منا بمن حوله، إيماننا بذكريات الماضي الجميل وبالألفة التي افتقدناها.. يقيننا بأن من يحيون إلى جوارنا هم أولى بالقرب من آخرين نسمع أصواتهم الزائفة ونشاهد صورهم المعدلة على الهواتف بينما تفصلنا عنهم بحار ومحيطات، ثقتنا بأن هذا الشخص الذي يفصلنا عنه جدار هو أول من سيأتي لنجدتنا عندما نحتاجه في الملمات.
نحن قادرون على صناعة مديتنا الفاضلة بأيدينا إن أردنا، بل والوصول بها إلى أعلى مراحل الخير والألفة والمحبة، ولكن ينقصنا الرغبة الصادقة في إعادة تشكيل مجتمعنا واستعادة روحه المفقودة بسبب الغزو التكنولوجي.