هدى مستور
على الرغم من أن التربية القرآنية جاءت لنفي الاتكاء على العدد الرقمي في تمييز الحق (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} (116) ونفي الإعجاب بالكثرة لجلب نصر أو دفع باطل { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا } (25) سورة التوبة. إلا أن كافة وسائل الإعلام التقنية العالمية ومنها العربية جاءت لتكرس تحديد مؤشرات النجاح في سلم سيَر الأفراد بالاعتماد على العدد المضاعف من خلال مؤشرين:- الأول: الثروة المالية المضاعفة، والثاني: كثرة الأتباع (الشهرة الكاسحة). في وقت كلنا نسلم فيه بتأثير الإعلام الرقمي في تداخل الإرادات، وسهولة انتقال العدوى الذهنية، والذوبان الكامل في إملاءات العقلية الجمعية.
إن من بدأ حياته كفرد معدم يزاول مهن بسيطة ثم انتهى به المطاف إلى مالك لأسطول من الطائرات وإدارة فروع لشركاته الضخمة حول العالم. لاشك أنه يملك من السمات الشخصية كالصبر، والإيمان، وفوقهما التوفيق الرباني، ما استحق به أن يثير الهام الأجيال في القدرة على اجتياز المراحل الصعبة في حياته إلى التربع على قمة سلم التفوق المالي.
ولست هنا لأقلل من تأثير الثروة المالية، في دعم النمو الاقتصادي ودورها في جلب عدد من أسباب السعادة والرفاهية والمتعة للأفراد، إنما محل العرض هنا، دائر حول تعظيم معيار «الرقم المضاعف» في وحداته الستة وهلم جراً، سواء أكان الرقم ينتمي لفئة الأرقام المالية أو لفئة الأرقام البشرية.
يتم ذلك من خلال ممارسة أسلوبي التأكيد والتكرار عبر التداول المتكرر لقصص نجاحاتهم كمصدر إلهام وحيد للأجيال الصاعدة، وفي الهوس بمتابعة أخبارهم إلى الحد باعتبارها المادة الإعلامية الوحيدة المستقطبة للملايين من المتابعين. فتداول تلكم الأخبار، ينتج عنه تسليم لا إرادي لمعيار «الرقم المضاعف» في تقييم الأشخاص عبر مضاعفة الرقم، وتبقى تلكم النجاحات المضاعفة مرهونة بعدَاد الرقم نفسه زيادة أو نقصاناً.
«الرقم المضاعف» ذو تأثير إيحائي لدى الناس قاطبة، ومن جملة الإيحاءات: الوقوع في الانبهار، وارتفاع القيمة الصورية لحاملي الرقم المضاعف، في مقابل تقليل الاعتبار القيمي تجاه كل من لا يتمتع بحيازته.
لا ينبغي إغفال ولادة صراعات من نوع آخر بين أصحاب الرقم المضاعف ( المالي والشعبوي )، هي صراعات لا تتوقف، فإما أن تتقاطع لتشابك المصالح، أو تتفاقم نعومتها الاستغلالية، إلا أنه في كل الحالات فإن الطرف المتضرر هم جمهور عريض من الأتباع.
إن الزيادة في تكريس أهمية حامل الرقم المضاعف، عبر متابعة أخباره الشخصية كتنقلاته وأسفاره وتفاعلاته الاجتماعية «نجم عنه في المقبل تراجع في قوة وحضور رسالة الفرد الشخصية، وهدر تدريجي لمصادر طاقته الحيوية، فضلاً عن ذوبان الكينونة المتميزة له، وفوضى في ترتيب مصفوفة القيم، فمفهوم ذو قيمة رفيعة كالنجاح سيقتصر على معادلة وفرة المال أو الشهرة وكثرة الأتباع، مع تراجع ظاهر في مستويات نبيلة كالرضا، والامتنان، والعيش بحكمة وسلام، وكذلك التراجع الشعبوي سيطال قيمة الإبداع أو تقديم الخدمات الإنسانية، ودعم المعرفة، والمساهمة في خدمة البيئة،،، وكل ذلك هو في الأصل يعادل قيمة النجاح الحقيقي.
التنازل عن الاختيارات الحرة الشخصية تزامن مع نشوء ظاهرة ما يسمى في عصر الإنترنت بـ»الاستقطاب الجماعي» المدفوع، سواء لمنتج أو لجهة، باعتبار أن أصحاب «الرقم المضاعف» هم وحدهم من يملكون قدرة هادئة، وهائلة معاً، في تحريك أفكار الجموع، وإلهاب مشاعرهم، وتوجيه اهتماماتهم، وتغيير معايير تفاضلهم، وحتى التأثير في تلوين ذائقتهم في اختيار تصميم اللباس والسكن، وتفضيلاتهم من الأطعمة ومناطق الجذب السياحية إلخ...
ولأني أؤمن بأن مخاطبة العقل وحده لا يبدو كافيا للتراجع؛ لاستثارته العناد والمقاومة، وكذلك فإن سرد الحجج العقلية لن تجد استجابة من عوام الناس إلا بما يتفق مع رغباتهم، كما أن الإقناع الفكري بالتداعيات السلبية لتعظيم الرقم المضاعف ذو تأثير محدود في الوعي الجمعي، كل ذلك لا يملك جلداً، أمام القوة المستقلة الهادرة لمقدمتين أولهما: التأثير العاطفي؛ فالعاطفة على الرغم من بساطتها وبدائيتها إلا أنها تتسم بعدم خضوعها للإرادة العقلية وكذلك بالتعقيد في تركيبتها، فمجموع مركب من غلبة الهوى، واستثارة الإعجاب، وإلحاح الرغبة، والانجذاب للصورة، فضلاً عن شدة الحاجة لمَثَل أعلى، تتجسد فيه طموحاته، ورغباته، فإن ذلك كاف للنجاح في التغطية على العقول.
إلا أن العاطفة سريعة الزوال، سريعة الانقضاء ولذا فإن من يعتمد في تسطير نجاحاته على العواطف الهائجة للوحدة المضاعفة من الأتباع حوله، فإن عاطفة أخرى متجددة وأكثر عنفوانا وقوة، كافية بإلهاء الحشود وتفريقهم عنه.
أما المقدمة الثانية فهي: سرعة سريان العدوى النفسية بين الأفراد إن كانوا في أوساط الجموع، إذ إن مجموع الموقف النفسي (العاطفي والفكري) للفرد عندئذ، يختلف عن موقفه بمفرده، ومن ثم فإن هذا من شأنه إتاحة الوقوع في التعصب الأعمى لمثله الأعلى، لا دليل معه في ذلك سوى رفضه الخروج عن المنظومة الجمعية القابضة عليه بإحكام. وهذه المقدمة شأنها كسابقتها، إذ بمجرد تعرية الموقف بالتحرر من ضغط التأثير الجمعي، يتجاوز ذلك الوهم الذي عاشه، ولن يبقى عنده طويلاً، ولكنه إن لم يتحرر بالكلية من تأثير السلطة النفسية التعبوية الجمعية، فإن تجربة بدائية أخرى بانتظاره.