د. محمد عبدالله العوين
من المواقف التي يحسن أن تُروى في ملاحقة الكتب والبحث عنها لمن شغف بالقراءة حباً أنني صحبت الوالد - رحمه الله - في سن مبكرة جداً إلى الرياض لغرض يخصه مطلع عام 1390هـ وركبنا سيارة الأجرة من نوع (بيجو) مع مجموعة من الركاب، وكان حراج ابن قاسم في وسط الديرة بين الجامع الكبير جامع تركي بن عبد الله وسوق المقيبرة وفيه يُباع كل شيء من الأثاث المستعمل إلى الكتب والمجلات القديمة المقروءة، ووجدت ضالتي، فقلت للوالد: دعني هنا، فذهب لشأنه وتاهت عيناي بين أكوام الكتب والمجلات المعروضة للبيع بثمن بخس، وكان في جيبي بضعة ريالات لم تشبع نهمي، فاشتريت الأهم الذي أرى أنني سأستمع به أياماً وليالي، اشتريت أعداداً من مجلة العربي بريال واحد لكل عدد، أما الكتب فبين ثلاثة ريالات وخمسة، ووضعت ما اقتنيته في كرتونين صغيرين وحملتهما إلى محطة انتظار سيارات الأجرة، حيث سنعود في (البيجو) نفسه الذي جاء بنا حسب الاتفاق معه، وحين وصلنا فتحت الوالدة الكرتونين آملة أن تجد فيهما ما يأتي به المسافرون عادة؛ ولكنها أصيبت بخيبة أمل، فالتفت إلي وقالت: يا ولدي الناس لما يعودون من السفر يعودون ومعهم ما يهدونه من كيك أو خبز شريك أو حلويات وأنت (جاي بقراطيس)!
وفي باب العناء والإرهاق الذي لا بد أن يصيب الباحث المصاب بداء الكتب أن العم مدبولي صاحب المكتبة الشهيرة في ميدان طلعت حرب بالقاهرة نشأت بيني وبينه علاقة مودة واستلطاف بعد تكرر زياراتي إلى مكتبته ونشر حوار معه في المسائية أجراه مكتب الجزيرة في القاهرة عام 1402هـ وتوطدت العلاقة بيننا؛ فكان يخصني بالجديد والنادر وما لا يعرضه في واجهة مكتبته، قال ذات مرة: تعال معي، وخرج من باب المكتبة على الشارع الرئيسي ماراً بين مئات المجلات والجرائد المعروضة على الرصيف أمام الباب وأنا أتبعه، ثم دخل إلى العمارة التي تقع فيها المكتبة وانعطف يساراً ثم فتح باباً صغيراً فإذا سرداب طويل ضيق على جانبيه أرفف تملأ الجدارين المتقاربين بحيث يجد المار بينهما مشقة في الحركة، وقال: ستجد بغيتك هنا في هذا المستودع، وإذا انتهيت (إنده) علي وسأسمعك وآتي إليك أفتح الباب لك، شكرته على أريحيتيه، ومكثت ساعة أو تزيد في هذا السرداب الضيق وكوّمت ما اخترته بالقرب من الباب، ثم رفعت الصوت: يا عم مدبولي، يا عم مدبولي، ولا أحد يجيب، كان الوقت ظهراً والمكتبة تبدو خالية، يا عم مدبولي، وشعرت بالاختناق وضيق التنفس لشعوري أنني في مكان مغلق ولن أستطيع الخروج منه، وبعد ساعة من نداءاتي وانتظاري دبت الحركة في المكتبة من جديد وسمع ندائي المبحوح وفتح الباب وكأنني أخرج إلى الحياة من جديد!
قال عم مدبولي: خلصت شغلك يا باشا؟
كنا نتغدى!