محمد سليمان العنقري
قبل ثلاثة عقود على أبعد تقدير لم يكن هناك توقعات بأن تكون الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي، فهذه المرتبة كانت لصالح اليابان وتليها ألمانيا بينما تقبع الصين في مركز متأخر عنهم كثيراً لكن هذا التغير في المراكز من حيث حجم الناتج الإجمالي للدول الكبرى ليس هو التغير الوحيد، بل إن هناك معطيات كثيرة تغيرت وأخرى مقبلة ستبدل من وجه الاقتصاد العالمي بشكل جذري خلال هذا القرن وبنصفه الأول تحديداً.
فمع ثورة الاتصالات والانتقال لاقتصاد المعرفة والتقنية الحديثة لم تعد الشركات الصناعية أو المالية هي الأكبر من حيث قيمتها السوقية، حيث تحتل شركات التكنولوجيا هذه المكانة وتجاوز بعضها حاجز التريليون دولار أمريكي مثل مايكروسوفت وآبل وامازون، إلا أن التغيرات التي بدا التأسيس لها والتي ستكون مفصلية في الاقتصاد العالمي تتمثل بتزايد طرح العملات الرقمية والتطوير الهائل بتقنية البلوك شين التي تساعد على استخدام هذه العملات فالملفت حالياً هو اتجاه شركات معروفة مثل فيسبوك لإطلاق عملات رقمية، حيث أعلنت عن نيتها إطلاق عملة باسم «ليبرا» مما يفتح المجال لشركات كبرى في كافة أنحاء العالم لإطلاق عملات مماثلة.. فماذا سيكون مصير العملات التقليدية الحالية ؟.. فقد أعلن خبراء أمريكيون عن خشيتهم من تأثير ليبرا على الدولار ومكانته العالمية، فإذا حدث وانتشرت العملات الرقمية فإن دور البنوك المركزية الرئيسية بالعالم سيتقلص كثيراً وستصبح العملات الحالية التي تعد هي الاحتياطي العالمي للنقد بكافة الدول في خطر من فقدان قيمتها وأهميتها مالم تتدارك الموقف وتبادر هي بالتحول الرقمي لعملاتها.
فما سيصاحب التغير للعملات الرقمية مستقبلاً سيبقى مجهولاً فكيف ستتعامل الدول معها وكيف سيكون شكل قرارات البنوك المركزية.. وهل سيضعف دورها في التحكم بالسياسة النقدية؟.. وما هي التأثيرات على معالجة أي إشكاليات تواجه الدول مثل التضخم أو الركود وغيرها من المعطيات التي تواجه أي اقتصاد بالعالم، كما أن زيادة تركز الثروات والاحتياطيات والإنتاج للسلع والخدمات وكذلك حجم الواردات للاقتصادات الناشئة كالصين والهند والبرازيل وغيرها سيعني أن موازين القوى المؤثرة في حركة التجارة الدولية وكذلك العرض والطلب على السلع الأساسية دولياً مثل النفط والغاز والمعادن ستتغير جذرياً وإن كان ذلك بدا واضحاً من حيث نمو الاستهلاك بهذه الدول، لكن مع ارتفاع حجم الطبقة الوسطى بهذه الدول فإن الطلب سيتركز فيها وسيكون مدعوماً بقوة المستهلك المحلي وليس الطلب لأجل التصنيع والتصدير كما هو قائم حالياً وهذا ما سيغير كثيراً بوزن وقيمة الدولار انخفاضاً بالتجارة الدولية وكذلك كعملة احتياط رئيسية بنسبة سيطرة كبيرة في السوق الدولية حالياً.
النصف الأول من هذا القرن أي خلال ثلاثة عقود قادمة سيشهد العالم تغيرات متسارعة بأساسيات الاقتصاد التي اعتاد العالم عليها كنوع العملات التي يتعامل بها والتي تمثل الاحتياط الرئيسي للدول بخلاف تغير بوصلة الطلب على السلع والخدمات وحجم الثروات وكذلك التقنيات التي ستدير الاقتصاد العالمي من خلال الذكاء الاصطناعي والذي سيغير مفهوم التنافسية عالمياً بالإضافة لظهور قوة جديدة للشركات الكبرى ستضاهي قوة دول عندما تصبح هي من يصدر العملات وتلعب الدور الأكبر بإدارة الدول وكذلك القوانين التي تحكم التجارة الدولية بل والأنظمة التي تطبق بالدول والتي ستتغير لتتكيف مع مصالح هذه الشركات وليس العكس كما هو قائم بشكل عام حالياً.