عبدالوهاب الفايز
يبدو أننا نشهد الآن حالة مشابهة لتعاطي المتعاملين والمضاربين المستثمرين في أسواق المال مع الشركات المساهمة، وما ينتج عنها من ردود أفعال متسرعة وقرارات غير محسوبة لقيادات الشركات وإداراتها التنفيذية. هذه الحالة انطلقت بقوة في منتصف التسعينيات الميلادية، وأدت إلى نكبات في الشركات، وفي أمريكا أدت إلى نقل الوظائف وإغلاق أكثر من ثلاثين ألف مصنع!
الحالة المشابهة لها الآن نكاد نراها في خضوع القرارات والتوجهات الحكومية لما يطرح في التواصل الاجتماعي، فالحكومات أصبحت مرتبكة، وتتسرع في الاعتقاد أن الحراك في وسائل التواصل بالضرورة سوف ينتج حراكًا جماهيريًّا شعبيًّا، أي أنها تجعل قراراتها وتحركاتها استجابة لتصورات وهواجس ومخاوف لما قد تعتقد أنه حقيقة، بينما الثابت أن أكثر من 70 بالمائة مما يموج في فضاء التواصل الاجتماعي أخبار وقصص ملفقة وكيدية، وموضوعات ترويجية.. وغيرها مما تعرفون!
في منتصف التسعينيات الميلادية تطورت (موضة) وممارسات إدارية مثل (إعادة الهندسة الادارية)، وحمل لواء هذا التوجه جامعات وكليات الإدارة المتخصصة مثل هارفرد و MIT وغيرها في أوروبا وأمريكا، وكانت متزامنة مع هجمة المستثمرين والصناديق الكبرى في أسواق المال الذين وجدوا في مضاربات الأسهم، فرصة سهلة للثراء السريع عبر الانقضاض على الشركات التي عادة تشهد تعثرًا ماليًّا أو إداريًّا في مراحل النمو.
بعد الاستحواذ الطوعي أو القسري على الشركات، يقدم الملاك الجدد للمساهمين المأخوذين بهذه الأعمال البطولية ضرورة إصلاح الوضع عبر إعادة الهيكلة مقدمين المآخذ الإدارية والمالية (المطبوخة محاسبيًا) عذرًا فنيًّا حتى يبدو الأمر حقيقة فعلية، وكان الأسرع الأسهل هو: تخفيض عدد العاملين، وبيع وحدات وأصول، أي الهدف عكس النتائج المالية السلبية، لإحداث التأثير الإيجابي لرفع السهم، ثم: يبيعون ويتركون العظم بلا لحم!
هذا جعل قيادات وإدارات الشركات المساهمة الناجحة والمستقرة تركز اهتمامها على السوق والعمل السريع لكسب المساهمين، واتجهت إلى القرارات والمشاريع العاجلة ذات مكاسب سريعة وقصيرة المدى، وقد تكون عالية العائد المالي ومرتفعة المخاطر، لا يهم، فالهدف منها إحداث الانطباع الإيجابي السريع للمساهمين.
أدى ذلك إلى تسهيل الاندماجات الكبرى بين الشركات العملاقة العابرة للقارات، وبالتالي تركز شديد للملكية قاد إلى تطور ظاهرة (فجوة الثراء وعدم المساواة) في العالم، التي يُخشى أن تقود البشرية إلى أزمات وحروب.
وسائل التواصل الاجتماعي تقدم الصورة الجديدة لترويج الوهم ليبدو للناس كحقيقة قطعية. الحكومات الآن أصبحت أسيرة التصورات الذهنية عن قدرة (متخيلة) لحجم التأثير الذي تحدثه وسائل التواصل الاجتماعي. حالة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي تُقدَم الآن كأحد التطبيقات الجديدة لاستخدام أدوات التواصل الاجتماعي في الصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والكذب على الجماهير.
مجلة الاكونوميست أسمت هذه الحالة: (فن الكذب)، أي طرح الأشياء للجمهور والجزم بأنها حقيقة ولا يهم ما بعد معرفة الحقيقة. مثلا، في بريطانيا سوق السياسيون المحافظون على الناس مخاوف عن تدفق واسع للمهاجرين المسلمين على الاتحاد الأوربي في حال قبول طلب تركيا. وقتها كانت الحقائق تؤكد أن انضمام تركيا بعيد جدًا، ونجحت مساعي إحداث المخاوف، وجرى التصويت على خروج بريطانيا.
كذلك الحملة الانتخابية للرئيس ترمب وللسياسيين من الأحزاب اليمينية الأوربية استثمرت حالة: اكذب وروج لمعلومات مغلوطة ولا يهم ما بعد اكتشاف الحقيقة. في عدد من الدول وقعت أحدث خطيرة نتج عنها وفيات وصدامات بعد نشر قصص (مثل جرائم المهاجرين في أوروبا، انتشار الاغتصاب في الهند) في التواصل الاجتماعي، اتضح لاحقًا أنها أكاذيب محضة.
عدد من الباحثين في ألمانيا وفِي دول أخرى قاموا بدراسات لهذه الظاهرة فوجدوا أن أكثر من 50 بالمائة من عينة الدراسة بقيت مصدقة لمعلومات وإشاعات مكذوبة، حتى بعد أن وصلهم نفيها من مصادر رسمية، أي أنها تعتبر ما صدر حقيقة!
وهكذا تتطور حالة يسميها Bobby Duffy، الباحث المتخصص والرئيس التنفيذي لشركة إبسوس الفرنسية لاستطلاعات الرأي بـ (الحقيقة والحقيقة المتخيلة)، وقدم تحليلاً واسعًا لهذه الظاهرة في كتابة الأخير عن مخاطر الصورة الذهنية التي نبنيها ثم نقبلها كحقيقة، ويرى أن هذه الظاهرة الجديدة تشكل خطرًا حقيقيًّا على مستقبل الديمقراطية في الغرب.
وحديثا صدر كتاب بيتر سنجر الباحث السياسي الأمريكي الذي يرى ساحة التواصل الاجتماعي وكأنها حرب Like War في استخدامها المؤثرة، حيث تمثل منصات وسائل الاجتماعي نوعاً جديداً من الحروب. وعمومًا.. ما يحدث الآن هو مقدمات الجيل الخامس للحروب، أي الانتصار بدون استخدام الجيوش التقليدية بل عبر الحروب السيبرانية والاجتماعية.