م. بدر بن ناصر الحمدان
في عام 1990هـ كانت الصورة الذهنية التي أحملها عن جامعة الملك سعود تنحصر فقط في مجسم الكتاب الذي يقبع في مدخل الجامعة، إضافة إلى تلك المسطحات الخضراء داخل الحرم الجامعي عندما كان ذلك المكان كائنًا حيًّا، يعج بالناس، حيث التجسيد الواضح في علاقة الإنسان بالمكان، تلك العلاقة التي انتهت مع بداية الطفرة الخرسانية للمباني الجامعية، واستقلال الجامعة «عمرانيًّا» عن المجتمع المحيط، وانفصالها عن جسد المدينة.
اليوم الأول في الجامعة ارتبط وجدانيًّا بصوت المياه المنبعثة من أرضية ذلك البهو العملاق. كان إحساسًا عميقًا بالمكان لشاب لا يزال مكون شخصيته الأساسي أخلاقيات طالب الثانوية النجيب الباحث عن المستقبل. في تلك الفترة كان القلق والخوف يسيطران على حالة «الفوضى الكبيرة» التي كانت تعيشها إجراءات عملية القبول والتسجيل «المعقدة» في الجامعة كنتاج طبيعي لحقبة «تقليدية» و»متخلفة» إجرائيًّا، ذهبت بلا رجعة.
لم تكن ثقافة التعريف بالجامعات وكلياتها وتخصصاتها متاحة حينها بمثل ما هي عليه الآن. في نموذج التسجيل كانت كلية العمارة والتخطيط التي سمعت باسمها لأول مرة آنذاك هي الخيار الأخير، ولم يدر في خلدي أن ذلك التخصص سيكون المستقبل الجميل في مسيرتي العلمية والعملية. في اختبار القدرات طُلب منا أن نرسم مشروعًا من خيالنا. حينها لم أستطع أن أكوّن فكرة حاضرة مقتبسة من المحيط العمراني الذي أعيش فيه، ولم أستوعب ذلك الإرث العمراني الذي كان يحيط بي، في برهان أن ثمة جيلاً بأكمله نشأ تحت مظلة تعليم تقليدي بحت، يعتمد على التلقين والحفظ وتقييد الحريات الإبداعية.
على سبيل المثال، ورغم أن أدوات التوعية والتعريف بالتخصصات الجامعية باتت أكثر تقنية وتطورًا، إلا أن الصورة ما زالت مبهمة أمام الطلاب فيما يتعلق بتخصص «التراث العمراني» الذي تارة يكون في أروقة كلية العمارة والتخطيط، وتارة أخرى يظهر في أروقة كليات السياحة والآثار أو غيرها. الاختلاف بين الكليتين ظاهر في تركيز الأولى على المسار المعماري والعمراني، وفي الثانية على مسار المعرفة التاريخية وإدارة المحتوى. وفي الحالتين يبقى خريج هذين المسارين في منطقة رمادية وغير واضحة في مواجهته العمل الميداني في حقل التراث العمراني.
لذلك يجدر بنا طرح عدد من التساؤلات، أولها: هل لدينا بالفعل متخصصون في التراث العمراني؟ أم أن الموجودين هم «هجين» من تخصصات متعددة؟ وهل نحن بحاجة إلى معماري أم إلى مصمم عمراني أم إلى آثاري أم إلى متخصص في إدارة التراث؟ وهل يستوجب الأمر تأسيس كلية مستقلة للتراث العمراني، تجمع بين هذه المسارات؛ ليكون لدينا خريج ملم بكل هذه العلوم؟ جدلية كبيرة تقودني إلى تذكُّر حلقة نقاش منذ سنوات عن دراسة تأسيس مسار «لتنسيق المواقع» في كليات العمارة والتخطيط، وحينها علق أحد الأساتذة بطرافة بأن خريج هذا القسم سيكون «جنايني» «بلهجته المصرية»، أي منسق حدائق!
التجربة العملية تقول إلى أن خريجي أقسام العمارة والتخطيط والتصميم العمراني وأقسام السياحة والآثار وإدارة موارد التراث ما زالوا بحاجة إلى تعزيز قدراتهم ومهاراتهم في تخصص التراث العمراني بصورته العملية؛ ليكونوا ممارسين قادرين على مزاولة المهنة، واستيعاب هذه المنظومة، وتمكينهم «عمليًّا» من الحصول على الرخصة المهنية التي تخولهم لتولي مسؤولية الإشراف على التراث العمراني بتطبيقاته كافة.
ما أود قوله إن الممارسة الحقلية في التراث العمراني هي «تخصص دقيق جدًّا»، يتطلب من ممارسيه مؤهلات معرفية وفنية وإدارية وتنظيمية على درجة من الاحترافية؛ الأمر الذي يجدر بالجامعات على وجه الخصوص عمل مراجعة شاملة لهذا التخصص الدقيق والمهم، وتحديد مساراته ومخرجاته بكل دقة، وبما يخدم سوق العمل بالشراكة مع القطاعات المعنية؛ فالتراث العمراني فرض نفسه كمسار مستقل، شئنا أم أبينا.