د. حمزة السالم
الأصل الغالب، الذي يسير طبيعيًّا موافقًا لخلق الله للسوق، هو: الإنتاج الدخلي/ التأجيري ينتج سوقًا غير حرة، ذات نظام إقطاعي، ينتج منه سياسة تميل لطرف الدكتاتورية. والإنتاج الصناعي/ التكنولوجي ينتج سوقًا حرة، ذات نظام رأسمالي، ينتج منه سياسة تميل لطرف الديمقراطية.
والصناعة لا تجتمع مع الإقطاع، وإن حدث على حين غفلة من الزمن فهو جمع متضاد مخالف لسُنة الله الكونية؛ فلا يستمر طويلاً، كالاشتراكية الهالكة.
وقد مرت البشرية خلال تطورها المدني بمحاولات عدة لتحقق عدالة توزيع الثروات في المجتمع. فمن أقصى الطرف في المزدكية المجوسية الاشتراكية التي تنادي بتشارك أفراد المجتمع لكل شيء، إلى أقصى الطرف المضاد في الإقطاعية الإمبراطورية التي تجعل الحاكم مالكًا لكل شيء.
والمجتمعات الاقتصادية إلى ما قبل قرنين من الزمن كانت كلها في معظمها اقتصاديات دخل/ تأجير، تقوم على الزراعة والرعي، وما يلحق بهما من تجارة وغزو. لذا، فقد جاء الإسلام ليتعامل مع النظام الإقطاعي بإقراره، ولكن بأحكام معاملات وسطية. فالإسلام لم يتصادم مع نظام الاقتصاد القائم (أي الإقطاعية)، بل هذَّبها.
ومع استصحاب هذا إلى واقع اليوم نستنتج أن التوزيع العادل للثروات يجب أن يُبنى على قاعدة أساسية، هي: إن أي شكل من أشكال توزيع الثروات لا بد أن ينتج هذا التوزيع زيادة من الثروات في المجتمع كله؛ ليغتني المجتمع كله، لا لكي يفتقر الناس جميعًا.
ولكي تزيد ثروة المجتمع في الاقتصاد الدخلي الذي يحكمه نظام إقطاعي فلا بد من تركز الثروة في أفراد معدودين، بينما يعيش الباقي حد الكفاف. وهذا ما جاءت به النصوص الشرعية للمعاملات من تحديد الزكاة في نِسب بسيطة، وما جاءت به أيضًا من منع الضرائب. والنظام الإسلامي هو أفضل نظام يحقق الاستغلال الأمثل لديناميكية السوق الدخلية الإقطاعية، التي كانت قائمة قبل النهضة الصناعية.
لكن، ومع دخول عصر الصناعة، أصبح لزامًا توافُر طبقة وسطى غالبية قادرة على شراء حاجيات فوق حد الكفاف؛ لكي تستطيع هذه الطبقة تحفيز الإنتاج. فجاءت الأنظمة الرأسمالية التطبيقية الحديثة المعدلة من الرأسمالية النظرية الأولى، ففرضت ضرائب تصاعدية على الأثرياء، تتزايد كلما زادت الثروة حتى تصل إلى 70 %، اعتمادًا على مقدار استفادة صاحب الثروة من موارد مجتمعه. وبهذه الضرائب تستطيع الدولة (الرأسمالية التي يمتنع امتلاكها للموارد) توفير الحاجيات الأساسية للناس من طب وتعليم وخدمات، كما تترك الفسحة لعزيمة المنتج على الاستمرار في زيادة الإنتاج وتطويره؛ فالتوزيع العادل للثروات هو ما يضمن المحافظة على أصولها وتطويرها لثراء المجتمع كله. وهذا لا يتحقق إلا بامتلاك القلة للثروة، سواء أكان المجتمع الاقتصادي إقطاعيًّا أو كان صناعيًّا. إن الاقتصاد الإقطاعي لا يحتاج لاستهلاك الطبقة الوسطى؛ لذا تنعدم الطبقة الوسطى فيه، وتكون الأرض والموارد الطبيعية هي عماد قيامه وازدهاره؛ لذا فرضت الدكتاتورية نفسها على هذه المجتمعات. أما الاقتصاد الصناعي فهو يقوم على استهلاك الطبقة الوسطى، وعلى إنتاجيتها؛ لذا فالطبقة الوسطى هي عماد قيام الاقتصاد الصناعي وازدهاره؛ لذا فرضت الديمقراطية نفسها على هذه المجتمعات.