د. عبدالحق عزوزي
رغم الذي يمكن أن يكتب ويقال فإن الاتحاد الأوروبي يشكل وحدة مؤسساتية ونقدية قل نظيرها رغم الأزمات المتتالية التي تعتريها. ومثل هاته الأزمات طبيعية في سيرورة مثل هاته التكتلات. وأي تكتل لا بد وأن تعتريه بعض المحبطات، المهم هو كيف يمكن أن يتجاوزها وما هي الدول الحورية التي تعتبر مظلات حامية؛ وفي حالة الاتحاد الأوروبي تشكل ألمانيا وفرنسا (رغم ثلاثة حروب قاسية بينهما في تاريخهما المشترك) الدولتين الرئيسيتين اللتين تقودان بطريقة مباشرة وغير مباشرة سفينة الاتحاد الأوروبي؛ وكل متتبع حصيف يمكن أن يلاحظ أنه كلما كانت هناك أزمة خطيرة في أي دولة من دول الاتحاد إلا واجتمع رئيسا البلدين في ظرف قياسي ووضعا خريطة طريق ذكية لمواجهتها قبل أن تجتمع مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
ونحن نعلم أنه في الأيام الماضية وبعد عدة تعثرات، اتفق الزعماء الأوروبيون على التعيينات الأساسية في الاتحاد، واختيرت الألمانية أورسولا فون دير ليين رئيسة للمفوضية والفرنسية كريستين لاغارد رئيسة للبنك المركزي الأوروبي. وأعلن رئيس المجلس دونالد توسك في تغريدة «اتفق المجلس الأوروبي على الإدارة الجديدة للمؤسسات الأوروبية» مرفقة بصور لهذه الشخصيات الجديدة منها خلفه البلجيكي شارل ميشال والإسباني جوزيب بوريل وزيرا لخارجية الاتحاد الأوروبي.
وشهدت اللقاءات الأوروبية لتعيين الممثلين السامين ساعات من المساومات الصعبة واللقاءات الثنائية ساهمت في تأخير موعد القمة لأكثر من أربع ساعات. وظهر الاثنين الماضي، عُلّقت القمة مع تحديد موعد جديد صباح الثلاثاء في قرار نادر أرغم رؤساء الدول والحكومة الـ28 على تغيير جداول أعمالهم.
وانتقد الرئيس الفرنسي ماكرون هذا «الفشل» وهو يدرك أن الاعتراف بالعجز يأتي ضد طموحه لجعل الاتحاد الأوروبي أقوى. ورأى أن «ذلك يعطي صورة سيئة جدا عن أوروبا، صورة غير جدية»، تضر «بمصداقيتها على المستوى الدولي». وندد «باجتماعات طويلة جدا لم تؤد إلى نتيجة» و»ساعات من المحادثات» في «تجمع من 28 دولة تجتمع دون أن تخرج أبدا بقرارات». واغتنم ماكرون الفرصة للمطالبة بإصلاح عملية اتخاذ القرارات على مستوى القيادة كي لا يبقى الاتحاد الأوروبي «رهينة مجموعات صغيرة».
ولكن مع ذلك فالوضع الحالي ليس أسوأ مما كان عليه عام 2014 عندما استغرق الأمر عقد ثلاث قمم لتعيين جان كلود يونكر على رأس المفوضية ومارتن شولتز، زعيم الاشتراكيين الديمقراطيين، رئيسا للبرلمان. وتطلبت المسألة قمة رابعة في أواخر آب/ أغسطس لتعيين رئيس للمجلس الأوروبي ووزير للخارجية...
ثم ونحن نتحدث عن محورية كل من فرنسا وألمانيا في قيادة السفينة الأوروبية، اعتبر اقتراح الرئيس إيمانويل ماكرون اسم وزيرة الدفاع الألمانية دير ليين المقربة من المستشارة الألمانية لرئاسة المفوضية الأوروبية، بمثابة الحل الذكي الذي فتح المجال أمام الفرنسية لاغارد لتولي رئاسة البنك المركزي الأوروبي.
الاتحاد الأوروبي هو عبارة عن مشروع فكري وحدوي اختمر في أذهان وكتابات مفكرين وحكماء وفقهاء قانون مبرزين وفلاسفة، قبل أن يصبح حقيقة ومشروعا سياسيا حقيقيا بمؤسسات قوية تجمع رؤساء دول ووزراء حكومات وخبراء وبرلمانيو الأمم؛ ورغم تباين دولها من حيث درجة التقدم الاقتصادي والمالي والفلسفة السياسية والاجتماعية السائدة، فإنها استطاعت مجتمعة من خلال حكمة بعض من أعضائها والمبادئ الوحدوية السامية من إصدار عملة أوروبية موحدة حلت محل العملات الوطنية، وساهمت في إقامة تدريجية لوحدة اقتصادية حقيقية، وتحويل أسواق الدول المشتركة في حركة التكامل والاندماج الأوروبي إلى سوق داخلية واحدة. وتمكن الاتحاد الأوروبي من تحقيق هاته المنجزات وغيرها بفضل عوامل الثقة السائدة، وبفضل عوامل سياسية وعوامل اقتصادية وعوامل تشريعية، مما جعل من الاتحاد الأوروبي نظامًا سياسيًّا وقانونيًّا له طابع خاص.
وكم ظن ظان أن المشهد اليوناني في العشر السنوات الأخيرة وأزمة ديونه الخانقة التي فاقت 323 مليار يورو (جلها قروض من البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) سيكون النهاية للعديد من المسلمات ولكن كل ذلك لم يقع؛ ونحن نتذكر أن ذلك أثار مخاوف منظري الاتحاد الأوروبي، لأن كيفية بداية أزمة الديون وتضخمها، وتأثيراتها على الحياة اليومية لليونانيين، وطريقة اختيار منتخبيهم شكلت مجتمعة لحظة فارقة في التاريخ السياسي والاقتصادي للاتحاد الأوروبي بل والاقتصاد العالمي، وهو ما جعل العديد من الخبراء يخطئون عندما كتبوا عن بداية نهاية الاتحاد الأوروبي.