زكية إبراهيم الحجي
على مدى حقب من الزمن يموت كثير من البشر في مجاهل الأرض وبشكل يومي.. ويعيش آخرون في بؤس وفقر مدقع يفوق الخيال، في المقابل تعيش شعوب أخرى في رخاء ورفاهية لا حدود لها.. وهناك آخرون ممن منَّ الله عليهم بالرخاء وسعة العيش يتعاملون مع مصائب من «ليس منهم» بانفصال شعوري يتراوح ما بين عدم المبالاة أو باهتمام متعالٍ أو في صورة تعاطف مؤقت سرعان ما تجرفه أمور حياته بعيداً عن صاحب المأساة معلِّلاً ذلك بمقولة «ليس من شأني»، وبالطبع لا نعمّم؛ فهناك حالات استثنائية تتمثَّل بؤرة اهتمامها في التعاطف مع المحتاج والشعور بروابط الأخوّة والإنسانية.
بناءً على ما سبق، ولأن السعادة هي الغاية النهائية في الحياة عند كل إنسان فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ترى أين تكمن السعادة بين النقيضين السابقين..؟ وهل يمكن أن يشعر الفرد بالإشباع بمجرد أن يُحَكم عقله ويضبط إحساسه بالاحتياج على ما بين يديه فقط أو أدنى من ذلك ليشعر بأن ما يمتلكه هو إحساس بالوفرة وليس الإشباع فقط؟
لنعد قليلاً إلى الوراء إلى؛ ما قبل ثلاثين عاماً وأكثر كيف كانت تعيش غالبية الأسر وكيف كانت تربي أبناءها.. لا يمكن أن ننكر أن الحياة في ذلك الزمن كانت قائمة على الندرة لذلك عاشت الأسر وربت أبناءها على مبدأ القلة فكانت السعادة وكان الرضا.. وكان الهناء بالمتاح هو أسمى ما يشعرون به نحو النعم رغم محدوديتها.
فترة زمنية ليست بالقصيرة عاشت خلاله كثير من الأسر على مبدأ الندرة في هذا الكون غير المحدود والذي يتمتع بوفرة كبيرة من كل شيء.. اليوم وفي عصر طغت عليه التكنولوجيا ووسائل الترفيه وتنوّع الوجبات الغذائية من خلال المطاعم المتعدِّدة والسفر والسياحة بشكل سنوي وامتلاك أكثر من سيارة واقتناء أحدث الصيحات في عالم الأزياء مع كل هذا نجد أن البعض ممن يتمتع بكل ذلك يشعر بأنه يحتاج للمزيد متوهماً بأن ذلك يشعره بالسعادة وفي ذات الوقت يتملّكه الخوف من فقدان هذا الشعور إذا توقّف عن الحاجة إلى المزيد.. لذا نجده يُسارع في امتلاك كل جديد ويتصرَّف بما تمليه عليه نزعته العاطفية نحو التملّك كي يزيد من إحساسه بقيمته.
النقيضان السابقان جزءٌ من مبدأ الوفرة والندرة، وهما مفهومان سائدان في حياتنا وذكرهما «ستيفن كوفي في كتابه العادة الثامنة» وأسهب في الحديث عنهما تفصيلاً.. المشكلة ليست في الاستحواذ بحد ذاته أو عدم الاستحواذ، فهناك اختلاف وتفاوت لذلك ما يجب أن نلتفت إليه، هو معيار الاختلاف والتفاوت وعدم القفز على معايير مستهجنة وغير مبرَّرة، فالوفرة ليست عيباً أو ميزة في ذاتها المعيار هو «مما يُكتسب وفيما يُنفق» وبالمثل فإن الندرة ليست عيباً كي نجعلها تحث على ضغط الحاجة فتتصارع في نفوسنا مئات الحاجات على اختلاف أنواعها والسعادة تكمن في عدم الاستسلام أمام النقيضين «الوفرة والندرة» كي لا نفقد قدرتنا على السعادة والاستمتاع بالحياة.