من السهل على الإنسان أن يكون قاسياً، لأن القسوة في بعض المواقف الإنسانية مريحة، فهي تقوم على التجاهل وغياب الضمير وتنامي الأنانية. لكن لا يمكن تعميم هذه الممارسة لأن هناك من يكسر هذه القاعدة، هناك من يعلمنا بدماثة خلقه وحضور قلبه ونقاء روحه وصفاء نيته، أن الحياة أجمل وتوجد فيها مثل جميلة وعادات كريمة لا صلة للقسوة بها ولا للأنانية مكاناً فيها، من هؤلاء أستحضر الدكتورة الراحلة عائشة أوتز أستاذة «علم السلوك» في جامعة الملك سعود للعلوم الصحية، التي كانت شغوفة بتعليمنا وتقدم مادتها العلمية بطرق مبتكرة وسهلة وتستعين بمقاطع فيديو ومصادر خارجية لتبسط المفاهيم ولتصل إلى قلب كل طالبة ولعقل كل من تريد العلم والمعرفة، جدولها مزدحم وهي غارقة في كمبيوترها تقرأ وتبحث لتجهز شرح المحاضرات القادمة. لكن أستاذة علم السلوك كانت تعلمنا هذه المادة بطريقة أخرى خارج المحاضرة والدرس وذلك من خلال سلوك أخلاقي عالٍ جداً، حيث كانت تتمتع برؤية محملة بالحنان والتقدير لتلامذتها فتلتمس لهن العذر وتساعدهن قدر استطاعتهن على سبيل المثال استحضر أعداد الطالبات اللاتي يغادرن محاضرتها عند وجود اختبارات فيستغلن وقت محاضرتها في مذاكرة مواد أخرى، لكنها قابلت هذا السلوك من الطالبات بحب وتقدير، أتذكر كلماتها وهي تقول: «أنتن نساء كبيرات وتعرفون كيف تنظمون أوقاتكم وأولوياتكم». كبيرات! كم تم استخدام هذه الكلمة لإثقال كاهلنا، أما الدكتورة عائشة فقد كانت الوحيدة التي استخدمتها في مكانها الصحيح بحب وبفعل على أرض الواقع، لم تشتم، لم تعاقب، لم تعنف، لقد راهنت على عقولنا لقد علمتنا أن سلوكياتنا مسؤولية كبيرة. أصيبت د. عائشة أوتز بورم سرطاني ورغم فداحة المرض وقسوته إلا أنها كانت تأتي إلى الجامعة حتى وصل بها أن تحضر على كرسي متحرك. في الحادي والثلاثين من مارس 2019 نعت جامعتنا أستاذتي القديرة حيث توفاها الله. أنا أعلم يا معلمتي الغالية أن الطيبة طريق صعب ومنهك، والقسوة مريحة، وأنت اخترت الطريق الصعب، لكنه الطريق الذي جعلك في قلوبنا وذاكرتنا إلى الأبد. يقول الرئيس الإفريقي والناشط السياسي الراحل نيلسون مانديلا: «تميل النفوس للشخص ذي القلب السمح، ذي الروح المنبسطة الطيبة، الذي يحول الأمور الصعبة إلى يسيرة، الذي يبتعد عن العقد والتعقيد، ويشعر من حوله بأن الحياة أكثر رحابةً واتساعاً وسهولة، إذا سألتم يوماً فاسألوا الله أن يضعمن أمثالهم الكثير في دروبكم».
الدموع التي انسكبت أمام باب مكتبها عبرت عن كل الحزن والصدمة التي لا يمكن للكلمات أن تعبر عنها، لست وحدي، بل كنت أرى الألم والدموع في أعين زميلاتي عندما اجتمعنا لجمع بعض المال لعمل وقف على نيتها.لم نفقد إنساناً عابراً، بل فقدنا من كان يشعر بنا ويرحمنا، وكان هاجسه السلوك القويم قولاً وفعلاً.
** **
- أفنان عبدالله آل زايد