نسمع كثيرًا عن جبر الخواطر، ولا نتحسس معناها ولا ندرك أثرها على الغير، على الرغم مما لهذه الشعيرة الإيمانية التي أوصى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه، لما لها من عظيم الأثر على نفوس الناس، فكم منا من يطير فرحًا إذا ابتسم أحد الناس في وجهه، وكم منا من لا تسعه السعادة إذا سمع كلمة تشجيع أو استحسان من غيره، وعندما يطرق آذننا مصطلح “عبادة” فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا الصلاة والصيام وبر الوالدين وصلة الأرحام وغيرها من العبادات التي تتبادر إلى الذهن عادة، ورغم عظم شأن هذه العبادات وكبير فضلها إلى أن هناك عبادات أصبحت خفية -ربما لزهد الناس بها وغفلتهم عنها- وأجر هذه العبادات في وقتها المناسب يفوق كثيراً من أجور العبادات والطاعات، ومن هذه العبادات عبادة “جبر الخواطر”.
جبر الخواطر خلق إسلامي عظيم، يدل على سمو نفس، وعظمة قلب، وسلامة صدر، ورجاحة عقل، يجبر المسلم فيه نفوسًا كسرت، وقلوبًا فطرت، وأجسامًا أرهقت، وأشخاصًا أرواح أحبابهم أزهقت، فما أجمل هذه العبادة! وما أعظم أثرها!
ومما يعطي هذا المصطلح جمالًا أن الجبر كلمة مأخوذة من أسماء الله الحسنى، وهو «الجبار»، وهذا الاسم بمعناه الرائع يطمئن القلب، ويريح النفس، فهو سبحانه «الذي يجبر الفقر بالغنى، والمرض بالصحة، والخيبة والفشل بالتوفيق والأمل، والخوف والحزن بالأمن والاطمئنان، فهو جبار متصف بكثرة جبره حوائج الخلائق».
وجبر النفوس من الدعاء الملازم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول بين السجدتين: ((اللهم اغفر لي وارحمني، واهدني واجبرني وارزقني))؛ سنن الترمذي.
اتصل الشيخ محمد الشعراوي -رحمه الله- على الدكتور حسام موافي (أحد أشهر أطباء الباطنية في مصر والوطن العربي)، ليحجز عنده موعداً لمراجعة العيادة، فأبى الدكتور حسام إلا أن يذهب إليه في بيته. وبعدما فحص عليه واطمأن على صحته؛ سأله دكتور حسام: إيه أفضل عبادة أعملها تقربني من ربنا سبحانه وتعالى، خصوصًا إني في أواخر عمري؟
قال الشيخ الشعراوي: أفضل عبادة هي “جبر الخاطر”.
دكتور حسام: ازاي يا شيخ؟
الشيخ الشعراوي: هل هناك أسوأ من الذي يكذب بالدين؟ ربنا بيقول: (أرأيت الذي يكذب بالدين)، شايف اللي بيكذب بالدين بيعمل إيه:
1 – (فذلك الذي يدع اليتيم) يعني بيكسر خاطر اليتيم.
2 – (ولا يحض على طعام المسكين) يعني بيطرد المساكين ولا يكلمهم ولا يطعمهم، ولا يجبر خاطرهم.
3 – (فويل للمصلين) وهنا تحذير لتارك الصلاة.
واستطرد الشيخ الشعراوي: لو لاحظت الترتيب؛ فأول أمرين ذكرهما ربنا هما التوحيد وجبر الخاطر، ثم الصلاة.
وانتهى الكشف، وانتهت الزيارة.
ذهب دكتور حسام في اليوم التالي كعادته في يوم إجازته لشراء احتياجات البيت، فتذكر مكالمة هاتفية من جاره: جبر خاطر يا دكتور.. ابقى عدي على حماتي راقدة في المستشفى مريضة، اطمّن عليها وطمّنها، الله يجبر بخاطرك. وتذكر نصيحة الشيخ الشعراوي “اجبر خاطر”، قال: فشعرت بأنها رسالة من ربنا، فقررت أعدي عليها أجبر خاطر جاري. وذهبت وزرت حماته في المستشفى، وفجأة جالي ألم شديد في صدري، وعرفت إنها جلطة في شريان القلب، فطلبت الطبيب المختص، وأخذت منه الدواء سريعاً، وخلال دقيقتين ذهب الألم.
بدأت أتفكر.. هذه الجلطة لو أصابتني وأنا بعيد عن المستشفى، وبمعنى آخر.. لو ذهبت وطنشت جاري، كنت مت فورًا، لأن أقوى إنسان في الدنيا لو أصيب بجلطة في الشريان التاجي سيموت لو لم يأخذ علاجاً سريعاً، وكأن ربنا يقول لي: جبرت بخاطر جارك، وأنا جبرت بخاطرك وأنقذت حياتك.
“جبر الخواطر” باب خير إلى رضا الله -عز وجل-، وقد قيل: “من سار بين الناس جابرا للخواطر، أدركه الله في جوف المخاطر”، فقد تاب الله -عز وجل- على الإمام مالك بن دينار وهداه لأنه اشترى حلاوة لبنتين أيتام وجبر خواطرهم.
كانت هذه ملخص حكاية ذكرها دكتور حسام بالتفصيل في أكثر من مناسبة، فما أجمل أن تزرع البسمة على شفاه الآخرين، وما أروع أن تسمع الدعاء ممن ساعدته وجبرت خاطره، واستشعرت ذلك عندما كنا نذهب لتوزيع المساعدات الإغاثية، هذه المساعدات لم تنقص من أموال المتبرعين شيئاً، ولم تغن اللاجئين أو المنكوبين، لكنها كانت تمثل “جبر خاطر” لهم، خصوصا وأننا لا نعرفهم ولا يعرفوننا، وأحياناً لا نعرف لغتهم ولا دينهم.
«الكلمة الطيبة صدقة».. كما قال رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-، فالكلمة الطيبة تعكس تربية صاحبها وثقافته وأخلاقه، وتأثيرها على الآخر لا يقل عن تأثير السحر على النفس والروح، قال ابن عثيمين، رحمه الله: «الكلمة الطيبة تنقسم إلى قسمين، طيبة بذاتها، وطيبة بغاياتها، أما الطيبة بذاتها كالذكر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الحمد لله، لا حول ولا قوة إلا بالله، وأفضل الذكر قراءة القرآن. وأما الكلمة الطيبة في غايته، فهي الكلمة المباحة، كالتحدث مع الناس إذا قصدت بهذا إيناسهم وإدخال السرور عليهم، فإن هذا الكلام وإن لم يكن طيباً بذاته، لكنه طيب في غاياته في إدخال السرور على إخوانك، وإدخال السرور على إخوانك مما يقربك إلى الله -عز وجل-».
لنا في حاجة لمن يجبر بخاطرنا، فنحن في أيام يكثر فيها المصائب والشدائد، ونحتاج لكلمة طيبة وابتسامة تجبر خواطرنا.. فلا نخسر شيئاً إذا جبرنا بخاطر مكسور وقلب حزين ومسحنا على عين دامعة، فهنيئاً للناس الذين تفردوا بتلك الصفة الجميلة في جبر خواطر الناس المكسورة.