يوسف الجابري
هلّلت الملايين من الجماهير الإيرانية واستبشرت منذ وقوف طائرة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية الخميني على مدرج وطنهم عام 1979م، وهتفوا للمرشد الأعلى وهو ينزل من سلم الطائرة هتاف الواثقين به وبمولود المستقبل الذي يحمله، ذلك المولود الذي خالوا أنه يمسك بخيوط المستقبل المزدهر، وختموا سبعينات القرن الماضي محتفين بمولود الثورة الذي سوف يحقق أحلام المواطن الإيراني ويجسدها على أرض الواقع.
بدأت الثورة ثمانينات القرن العشرين وقبل أن تفطم رضيعها الحلم بحرب مع الجارة العراق استمرت ثماني سنين، يدير خلالها المرشد الأعلى ومجلسه الحرب من جهة، ويمضي في خططه التوسعية من جهة أخرى، تُحمل بذور الثورة التوسعية في عقول الوكلاء لتنثرها في حقول الجيران في الإقليم، ولا يخالج المرشد وقياداته شك في أن هذا الوليد الحلم سوف ينجح رغم آلاف الأرواح التي تزهق على الحدود العراقية الإيرانية، والحرب إذ ذاك سجال.
الإصرار على التوسع خارجيا ونشر إيديولوجيات الثورة والتعامي بل والتغافل ونسيان إيران ومواطنها البسيط، جعل من إيران دولة لا تعود على المواطن بشيء سوى أنها أصبحت ماكينة تمويل لخلاياها التي تخدم الثورة في الأقطار المجاورة، كما أن الرغيف الإيراني الذي يبتاعه المواطن باردًا لم يصله حتى وصل الرغيف الأول ساخنًا للوكلاء خارج طهران، فلم يعد للإيراني من رغيف وطنه إلا الثلث إذ أضحت أجندة الثورة التوسعية أولوية مولود الثورة وقيادتها.
تطاول على المواطن الإيراني البسيط هذا الأمر، فالحقول لم تعد تعطي القمح بغلّة كاملة، والحياة في إيران لم تلبس ثوب الرفاهية، بل إن المولود الحلم كلما كبر ازدادت متطلباته بشكل مطرد؛ لكي ينفق أكثر لتجنيد الأتباع في الخارج، يحدث كل هذا على حساب المواطن الإيراني، وحينما أطلّ المواطن الإيراني المغلوب على أمره من نافذته على الجيران في الضفة الأخرى من الخليج شعر بحسرة لما رأى من التطور، وآلة البناء التي لا تقف، وناطحات السحاب والاستقرار السياسي وهو لا يزال يراوح في فترة سبعينات القرن الماضي، ودولته شُغلت وما زالت تشغل العالم بكثرة الصراعات التي تذكي نيرانها في أماكن عديدة، وعندما أدرك المواطن الإيراني وأد حلم المستقبل ورفع رأسه ليحلم حلما جديدا اصطدم بسقف قوى القمع الفولاذية التي كُونت من نسيجه، وبُنيت من ثرواته، وثلث رغيفه المتبقي، ومن برميل نفطه؛ لقمعه حين يحاول أن يحلم حلمًا جديدًا!.
يلوم الجيل الإيراني الجديد الأجداد (شباب الثورة اليافعين إبان قيامها)، إذ يرون أنهم باركوا ولادة هذا المولود المستقبلي المزعوم، وألقموه أثداء موارد البلاد، وأصبح كل بيت إيراني ظئرا يُرضعه، وعندما شب عن الطوق استأثر بكل شيء، واليوم وهو في سن الأربعين أصبح أكثر عُنفا يترنح بهم ولم يعد على الوطن بعوائد ترتقي به سوى الدمار وتجييش العالم ضد الإيراني، كما أدرك الجيل الإيراني الجديد أن حلم الثورة الأربعيني يشكل عقبة كؤودًا في طريق بناء الوطن والعيش الرغيد والسلام، وآمن أن الكراهية وفرض الأيديولوجيات ودعم الصراعات في العالم لا تصنع وطنًا مزدهرًا، وأن فكرة الإمبراطوريات والتوسع لا تتناسب مع العصر الحالي الذي تحكمه روابط التعاون والمصالح المشتركة وإظهار حسن النوايا والتعايش مع الآخر على مبدأ الاحترام المتبادل وحسن الجوار.
صدور الإيرانيين لم تعد تحتمل جثوم هذا الأربعيني عليها، ولن تنتظر أن يُعمرّ حتى يشيخ ويموت بداء الشيخوخة على سرير مخملي تحيط به أكاليل الورد، حتى وإن قُمعت فإنها حتما ستزيحه عن صدر وطنها؛ لتتنفس الصعداء وتتبنى أحلامًا جديدة غير مشوهة، وبذلك يتاح لها اللحاق بقطار العالم العصري السريع الذي لن يجلس الإيرانيون على مقاعده في ظل ممارسات هذا الأربعيني العدائية.