د. حمزة السالم
علم الاقتصاد علم ضيق محدود كعلم الشريعة. قد يضيع العمر في تتبع الفروع فيهما بلا طائل. فكلا العلمين علم أصول، يُفهمان بفهم أصولهما، اللهم إلا أن أصول علم الشريعة نصية وقفية وأصول علم الاقتصاد منطقية عقلية. والإكثار من القراءة في الفروع تسلب المرء فهمه واستقلالية تفكيره؛ ولذا كثر التقليد في الفقهاء والاقتصاديين.
فعلم الشريعة قد اكتمل بانقضاء القرن الأول، وعلم الاقتصاد قد اكتمل في القرن الحالي. والفرق في مدة الدورة الزمنية بين الفريقين، هو فرق تابع للفرق في سرعة الزمان اليوم عنه بالأمس.
واكتمال العلم يدفع رجاله لحالة التبعية الفكرية؛ فتعميهم عن الفروق الهائلة بين حالين متشابهين صورة ومختلفين جوهرًا، فينزل إحداهما منزلة الأخرى؛ فيأتي بالأعاجيب. وأمر هذا في الاقتصاد أشد، فهو علم ملاحظة لسلوك ثقافة المجتمعات السوقية مع تمييز لأعراقها وسلوكياتهم، ومعرفة لمواردها وإدراك لسياساتها. ولذا؛ يصعب أن تجد في الاقتصاد حالتين متشابهتين بين بلدين أو في بلد واحد، لكن باختلاف الزمن. والأمر ليس وقفا على الحالات، بل حتى على المسميات والمؤشرات.
فالإنتاج الصناعي هو الإنتاج القابل للزيادة غير المحدودة في النوعية والكمية. فطائرة وسيارة وحاسبة اليوم قد تطورت تطورًا عظيمًا خلال عقود من الزمن، وتعاظمت كمية إنتاجها تعاظمًا كبيرًا ولا حد لهذا التطور أو الزيادة، لا أن يستبدل بمنتج أفضل منه وأكفأ. وثم دخول التكنولوجيا اليوم على الصناعة عظم وضاعف من هذه الخاصية للإنتاج الصناعي.
ومما يدخل تحت مفهوم الإنتاج الصناعي، لموافقته في الحد وهو إمكانية تطويره وتوسيع إنتاجه: الإنتاج الخدمي القائم على العلم أو التكنولوجيا، كالطب والاستشارات الفنية، وبعض فروع المحاماة، والخدمات البحثية، والتدريس ونحوها، كلها. فمثلا، التدريس عن بعد وسع إنتاج المدرس وحَسّن نوعيته، وهو باب قابل للتوسع والتطوير. وكذلك الخدمة الاستشارية في الطب، ومثله البرامج الحاسوبية وهكذا. وهذا بخلاف الإنتاج الخدمي القائم على الجهد البشري كآلة لا كعقل، مثل الأعمال اليدوية، كالنظافة وغيرها، فهذا يعد من الإنتاج الدَّخْلي.
ومفهوم الإنتاج الدخلي: هو القائم على إنتاج متجدد سنويًّا أو فصليًّا، أو شهريًّا. إلا أن هذا الإنتاج المتجدد محدود الكمية والنوعية، لا يمكن زيادته ولا تطويره بشكل متواصل، كالزراعة والسياحة. فإنتاج مزرعة أو فندق أو منتجع قد يكفي لإثراء مالكها، ولكنها لن تكفي لإثراء أحفاده الذين سيتزاحمون على هذا الإنتاج. وتوسيع الإنتاج السياحي محدود بالأرض والمباني وتطويره كذلك.
لذا فالاقتصاد الدخلي يشرح جزءًا مهمًّا من سلوكيات المجتمعات في الغزو والحرب ويبين فلسفتها. فهذه المزاحمة تلجئ المجتمع للغزو لضيق الثروة، أو يتنازع الأحفاد على الإنتاج المحدود؛ فيضعف المجتمع، ومن ثم تأتي نهايته بغزو على أياد خارجية.
تنبيه: ولمنع سوء الفهم، فإن الزراعة والصيد قد تدخلهما الصناعة والتكنولوجيا؛ فتخرجها من الإنتاج الدخلي إلى الإنتاج الصناعي، ويتحقق في هذا الإنتاج مفهوم الإنتاج الصناعي؛ لقبوله للزيادة الكمية والنوعية، كإنتاج الدجاج والبيض والسمك والألبان وغيرها. وكذلك هو في الإنتاج الخدمي القائم على الجهد البشري إذا دخلته الصناعة والتكنولوجيا، كنظافة الشوارع بأدوات متقدمة وبنماذج تصميمية مناسبة، فهذا مما لا حد فيه كذلك، لتطويره في جانب الأدوات وفي جانب التصاميم.