عبدالوهاب الفايز
مع دخول وسائط التواصل الاجتماعي وبعثرة المشهد الإعلامي، ضعف دور قادة الرأي المحترفين والمتخصصين، من الخبراء المؤهلين الذين يتبنون الطرح العميق الجاد، والذين يُوصفون بـ (التقليديين)، تفريقاً بينهم وبين نجوم التواصل الاجتماعي (المتاجرين) بالمتابعين البسطاء؛ قبل هذا الإعلام الأصفر، كانت وسائل الإعلام الأساسية، بالذات الصحافة، تقوم بدور حيوي لإثراء مدخلات القرارات الوطنية السيادية والتنفيذية، وتقريب وجهات النظر في المجتمع. كانت النفوس أكثر صفاءً، والعقول مقدمة.
فالإعلام حينئذٍ كان في حالة أقرب إلى التكامل في وجهات النظر الوطنية مع القطاع العام، وكان (ولي الأمر) يستفيد من حالة الوفاق أو العرف الذي يسود بين قطاع الإعلام والفكر ومؤسسات الحكومة، إذ يُتيح له الاطلاع على وجهات نظر وأفكار وتصورات وطنية مستقلة يقدّمها الإعلام عبر مقالات الكتّاب، وعبر التقارير والتحقيقات والحوارات الميدانية التي ينتجها جهاز التحرير.
فِي التاريخ الطويل للإعلام السعودي، تبنت الحكومة العديد من الأفكار والآراء والتصويبات والانتقادات التي ترد في الإعلام. كان قادة القطاع العام غالباً يقدرون ويستجيبون ويتفاعلون مع ما يطرح في الإعلام رغم مخالفته وعدم توافقه معهم، لأن الطرح كان يحمل المصداقية ويتوخى المصلحة العليا للبلاد. وقبل أربعة عقود كان ما يطرح في الإعلام يعكس تطور حيوية الحراك السياسي والاجتماعي الذي نتج عن التأهيل الواسع الذي تبنته الحكومة لبناء الموارد البشرية، حيث أسست الجامعات ودعمتها، وتبنت ابتعاث الطلاب إلى أرقى الجامعات في العالم.
لقد شهدت السبعينات الميلادية مساهمات متنوِّعة وواسعة من المتخصصين والأكاديميين في الصحافة السعودية، وكانت تقدّم آراء نقدية موضوعية وجريئة، واستقبلتها الحكومة بروح إيجابية، ودخل الحكومة لاحقاً قيادات ممن كانوا يكتبون ويتحدثون ناقدين ومقدّمين مقترحات في الشأن العام، واستقطابهم للعمل الحكومي كان يعكس روح الثقة والتمكن لدى ولي الأمر، ويعكس رغبته الجادة في الاستفادة من الكوادر المؤهلة لقيادة مشروع التنمية الواسع الذي يحتاج الموارد البشرية في مواقع عديدة، فالهم الوطني أكبر وأوسع.
وهذه الحالة الإيجابية المستمرة حتى الآن للتفاعل مع الإعلام أول من تبناها وعمل بها الملك عبدالعزيز -رحمه الله- فحين استعاد مكة المكرمة والمدينة المنورة، كانت الصحافة قائمة وتقدّم آراء وأفكار النخبة الثقافية والفكرية، وحينئذ نشرت مقالات تنتقد واقع التعليم وضعفه، وهنا عين الملك عبدالعزيز من كان ينتقد في موقع إدارة التعليم وفي غيرها.
تفاعل الحكومة مع الإعلام حالة أضعفها وقلَّل إيجابيتها وفائدتها دخول وسائط التواصل الاجتماعي التي وسعت ميدان عرض وتداول الرأي وفتحت المجال لكل من لديه شهوة الكلام والنجومية، فأصبحنا نجني ما يجنيه (حاطب الليل) من فضاء التواصل الاجتماعي. في المقابل الصحف لم تعد قادرة على تقديم المحتوى العميق المحترف بعد انحسار مساحة النشر وانسحاب الكتاب، وتقلّص مواد التحرير الميدانية.
الآن الأجهزة الحكومية أصبحت تتبنى وسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى الناس، وتدفع أموالاً كبيرة للمؤثِّرين ولإنتاج المواد الإعلامية (غالباً رسوم بيانية ثابتة ومتحركة.. وعالية التكلفة!) لكي تتواصل مع الناس، لتقديم مشروع أو مبادرة أو لتصحيح معلومة أو نفي إشاعة، وهذا ما كانت تقوم به الصحف سابقاً، ومجاناً! وثمة فارق.. فهنا عبر هذه الوسائط، ننقل معلومة فقط.
بعض القيادات في القطاع العام لم تفهم المشهد الإعلامي المعاصر. هي غير مدركة أن وسائط التواصل السريع لا يمكن أن تقود إلى إنتاج الفكر وقيادة التغيير، وصنع الأجندة الوطنية التي تريدها الحكومة للنقاش والحوار.
في صنع السياسات، من الخطورة على المجتمع ومصالح الدولة أن تكون وجهات النظر المحترفة والمتنوّعة مغيبة عن القيادة السياسية، وعن قيادات الأجهزة الحكومية.
دور الإعلام الأساسي والحيوي، ودور مؤسسات الفكر والثقافة في مجتمع ينمو ويواجه تحديات ومخاطر حقيقية هو (توفير الدعم الفكري) للقرارات والمشاريع والمبادرات الوطنية، وتقديم وجهات النظر الموضوعية المستقلة التي تساعد على نضج ووضوح وشفافية وكفاءة القرارات والمشاريع الوطنية، والإعلام أهم وظيفة يؤديها في المجتمع هي: السعي إلى الإثراء الفكري، و(عصف الأفكار).
في مجتمع حيوي طموح يتطلع إلى المستقبل، مثل مجتمعنا، الإعلام والفكر والثقافة أداة ضرورية لبناء وتنمية وعيه الاجتماعي والسياسي، إنه دور تنموي إيجابي. وهذا ما تحرمنا منه فورة التواصل الاجتماعي!