د.فوزية أبو خالد
1
تثلج الصدر تلك الردود المتفاعلة إيجابًا وسلبًا مع مقالي في جريدة الجزيرة الأسبوعين الماضيين عن النسوية، وخصوصًا ذلك التفاعل الذي أشعل «تويتر» بمجموعة تغريدات متواترة من الممتعض إلى المبتهج ومن الملتبس إلى الموضوعي ومن المثبط إلى المشجع. وخلافًا لموقف بعض الكُتاب الذين يأنفون أن تكون مقالاتهم «معاريض» لللقضايا الشائكة أو تعبيرًا عن صوت سواهم ممن لا منابر لأصواتهم، مع احترامي لذلك الموقف والموقف المماثل الآخر الذي يرفض أن تكون موضوعات مقالاتهم استجابة لما يطلبه القراء على طريقة ما يطلبه المستمعون، فإن عشقي تحري تلك القضايا بما فيه «ما يطلبه القراء» والبحث فيها للكتابة عنها.
****
2
وبناء عليه يأتي هذا المقال استجابة لمن طالبني بكتابة مقال إضافي على المقالين السابقين عن النسوية كما يأتي إجابة على بعض الأسئلة التي وردت في شأن أطروحة النسوية وكان أولها وأكثرها إلحاحًا سؤال: هل لدينا نسوية في المملكة العربية السعودية مثلنا مثل مجتمعات أخرى من أمريكا وأوروبا إلى دول من العالم الإسلامي والعربي. إضافة لسؤال ملحاح آخر كان ينتهي إليه طيف من الأسئلة الأخرى وهو سؤال ما سر تعميم الفوبيا من «النسوية» وتوصيمها حتى من قبل بعض النساء أنفسهن؟!
********
3
والواقع أن السؤال الأول والأسئلة الأخرى بما فيها السؤال الأخير ليست بأسئلة جديدة إلا أنه على تكرارها في الداخل والخارج فقد ظل مجهود الإجابة عليه مجهودًا فرديًا مناط بالكثير من الاجتهاد وبالقليل من الأسماء بسبب من الحساسية التي كان ولا يزال يثيرها المصلح على مستوى الشارع وعلى مستوى مؤسسي ورسمي وما ينتج عن ذلك عادة من خفض أجنحة حرية البحث فيه وليس فقط حرية القول والكتابة في شأنه.
وهذا في رأي ما وسع دائرة الضبابية في النظر إلى النسوية كقول وفعل وأعطى مساحة مضافة للمتقولين عليها جهلاً أو عمدًا ولمن يحملون لها عداء إيدولوجيا أو من يظنون أنها تتناقض مع البنية الرعوية لمصالحهم فيما لو تحولت النسوية إلى حالة مقبولة لتمكين النساء. ورغم أن النسوية لم تقدم نفسها تاريخيًا ولا حتى في المجتمعات المنفتحة التي أنتجتها كأداة استبدالية للبنى القائمة، بل كموقف سجال سلمي نظريًا وميدانيًا، فإن ذلك لم يخفف من رهاب أن يؤدي قبولها فضلاً عن توطينها على مستوى معرفي في المؤسسة الأكاديمية والثقافة العامة أو على مستوى ميداني في الشارع السعودي والوعي الاجتماعي إلى جعلها إطارًا تفاوضيًا لتقديم المطالب ولتمثيل المواطنات بما قد يحرمهن متعة العطاء والمنع المتبعة عادة في مجال حقوق النساء حد التلاعب بالمصائر وليس فقط بالعواطف وعيدًا أو تهديدًا كنتيجة لوقوع النساء عمومًا تحت طائلة الأبوة بمعناها القرابي وسواه.
ولربما ينتبه القارئ أنني قد أنهيت الجزء الأول من المقال بإجابة السؤال الأخير من السؤالين أعلاه، بما جاء دون ما قصد على طريقة الأفلام التي تبدأ بالمشهد الأخير.
*******
4
ولكن عودًا على بدأ فالإجابة على السؤال الأول أعلاه عن وجود أو عدم نسوية بالمجتمع السعودي، لن تكون للمفارقة إما بلا أو بنعم.
أي أنه لا يمكن القول قطعيًا إنه ليس لدينا بالمملكة العربية السعودية نسوية بالمعنى الزخمي للكلمة في مجتمع كان يذخر بمظلومية النساء التاريخية على مستوى قيمة الرشد الإنسانية وعلى مستوى الحرمان من الأهلية الاجتماعية ولم يكن لنسائه إلا يطققن قهر لولا طاقة الصبر والنضالات اليومية الصغيرة، ولكن في نفس الوقت لا يمكن القول بوجود نسوية لدينا لا بالمعنى الحركي ولا بالمعنى التصوري المتعارف عليه في مجتمعات أخرى.
ولهذا فالقول بنعم يشير إلى وجود مجازٍ للنسوية في المجتمع السعودي ولكنه وجود لا يخلو من الفعالية والتأثير والسجال السلمي رغم ما يواجهه من حملات عنف أحيانًا. والأدهى أن ذلك الوجود على مجازيته لم يخل من المراوغة والالتباس، إذا قد تستخدمه الصفوة المتنفذة بقدر أكبر أحيانًا مما تستطيع استخدامه عموم النساء أو النخبة منهن.
أما الإجابة بلا فهي تشير إلى غياب النسوية في السعودية غيابًا تجسيديًا. ويتجسد ذلك الغياب في عدم وجود كيانات مصرح بها رسميًا ومعترف بها اجتماعيًا لتمثيل النساء، دون أن يعني ذلك الغياب، محو هاجس النسوية أو النجاح في طمس استلهام مضامينها الاستشرافية نحو تحسين الشروط الحياتية للنساء، وأن حجب ذلك الغياب فرص تمكين النساء بالمعنى النسوي والقانوني المنشود. واللافت أنه ينطبق على الغياب نفس ما ينطبق على حضور النسوية المجازي، من توظيف أطراف متعددة لذلك الغياب. فهناك أكثر من حالة نسوية بين حضور وغياب من النسوية الرسمية لنسوية الداعيات ومن نسوية النخب الحديثة لنسوية عموم النساء العفوية. طبعًا هذا لا يتنافى مع التجاذب والتوتر والنضالات اليومية الصغيرة والضرورة والنجاح حينًا والفشل أحيانًا لخلق نسوية مستقلة بالمعنى السوي والمشروع للكلمة.
*****
5
ليس من باب النستولجيا بل من باب المعايشة أن بإمكاني وبإمكان أي متابع من جيلي أن يقدم العديد من الأمثلة على ذلك الحضور والغياب للنسوية القائمين معًا وفي نفس الوقت، بما يكشف الطبيعة الجدلية للمجتمعات البشرية التي لا تجعلها بمنأى، وإن نأت أو انتبذت، عن الخيال الاجتماعي وعن قدرته على الغزل ولو بظلف الذئب. وباختصار مخل فقد تراوح غياب وحضور النسوية في المجتمع السعودي من سجال تعليم المرأة العام أولاً والجامعي ثانيًا الذي عزز تعليم النساء بسابقة إضافة النساء على عقد الزواج شرط إكمال تعليمهن، إلى دخول النساء مجالات عمل متعددة بما فيها وصول صوت المرأة إلى منابر الرأي العام للتعبير عن مطالبها ومطالب وطنية أخرى إلى سجالات المطالبة باستصدار هوية مستقلة للمرأة تعترف بشخصيتها الاعتبارية كمواطنة وليس مجرد تابع مضاف في هوية الأب والزوج. غير أن المقلق في هذه اللحظة التحولية الكبرى هو أن النسوية في المجتمع السعودي لم تحرز حضورًا مشروعًا كافيًا لمحو الغياب ينقل حضورها من مستوى الهاجس الاستلهامي لحالة من التجسد المدني لا في ذروة المطالبة بالحق في قيادة السيارة ولا بعدها.
****
6
وهذا ما يفتح المجال لمساءلة الذات ومساءلة الواقع العام مساءلة نقدية شفيفة عن مسارات التحول وموقع القوى الاجتماعية منه وفيه، ونخص هنا موقع عموم النساء وليس نساء النخب وحسب؟!