م. بدر بن ناصر الحمدان
كثير ما تستهويني تلك العبارات «الأنيقة» التي يسطرها «مجهولون» على جدران الشوارع وفي أروقة المدن، أجدها حالة متقدمة من التجلي، والتجرد، والتعبير الصادق عما يجب قوله دون قيد أو شرط أو رقابة، هي رواق «طبيعي» تجتمع فيه مفردات الكلمة التي تتسم بالإيجاز والمباشرة، ربما أغلبها اقتباسات ولكنها كانت قادرة على أن تتفرد بترك مساحات من «التساؤلات» المفتوحة، كثيرة هي العبارات التي رصدتها ولكن ما بقي منها في ذاكرتي كان هو الأكثر «أدباً» و»عمقا».
من أجمل ما قرأت عبارة في أحد الميادين تقول «وسيظل مكانه فارغاً، وفراغه أجمل الحاضرين» كتبت على جدار متوار خلف ميدان عام، أدب رفيع جداً، ووصف في غاية البلاغة والأجمل من ذلك كله أنها كانت مكتوبة في زاوية مخبئة، ربما كي لا يراها أحد.
في مكان ما وداخل حي سكني كتب أحدهم «بيني وبينها هذا الشارع» وجاء آخر وأضاف على نهاية العبارة جملة «وقبيلة»، يبدو أنهم متواترون ومتفقون، كل منهم يحمل ما يقوله من زاويته التي ينظر منها، ولكن في النهاية رسالتهم واحدة.
مروراً بأحد الشوارع الصغيرة، يبدو أن هناك من يخاطب أمه حينما كتب «وكبرت يا أمي وأصبحت أبكي دون علمك»، بُعد أدبي لا يضاهى، ورسالة مدفونة إلى أم لا تدري أن ابنها بات رجلاً ولكنه يبكي.
وعاشق ملّ من الانتظار فكتب على جدار الحديقة التي تمر بها معشوقته «ما رأيك أن نعشق بعضنا سراً، ونوهم العالم أننا أعداء»، هذا الاقتباس ما هو إلا عرض حب مغلف بالاستقلالية عن مجتمع قد لا يستوعب معنًى خاصاً لعلاقة بين إنسان وآخر.
الأدب الشعبي المحلي كان هو الأكثر قدرة على خلط الأمور وصناعة الرسالة الساخرة، وظهر ذلك بشكل واضح في مزيج من العبارات التي أُفردت لها مساحات جدران الشوارع، والأكثر تناقضاً أن جل من سطرها هم أشخاص تائهون، انقطعت بهم سبل الحياة، وجابوا تلك الشوارع بحثاً عن بداية طريق فلم يجدوا سوى «الكلمة» أياً كان مكانها.
«الدنيا دروس، وأنت حصة وانتهت» هكذا كان تعبير أحدهم تجاه من خذله يوماً، لكن لا أدري لماذا اختار كتابتها على جدار مبنى مهجور، ربما كان تعبيراً مجازياً للمكان، أو لربما لم يجد سوى هذا الجدار شاغراً، الأهم أن الرسالة قد وصلت.
على جدار مدرسة بنين يبدو أنه طفح الكيل، فكتب أحدهم «المدرسة للبيع، ومعها المدير مجاناً» في موقف ساخط جداً ربما كان هو الحل الأخير، وأردفها آخر وكتب تحتها «خل القيمة المضافة علينا»، لقد باعوها ومن فيها «افتراضاً» و«ضمناً»، ولعل المدير يقرأها يوماً، وعلى النقيض كُتب على جدار مدرسة بنات مجاورة عبارة تقول «فديت برطم المديرة» ولكم قراءة ما بين السطور دون أدنى تعليق..!
في رأيي الشخصي أجد أن مثل هذا التفاعل بين الإنسان والمكان «أمر إيجابي» على مستوى توظيف المجال العام، والحقيقة أننا يجب ألا نتجاهل تلك العبارات، فهي واقع معاش، لا يمكننا تجاوزه، وحري بنا تحليلها «اجتماعياً»، فلا تستهينوا بها مهما كانت درجة «سخريتها»، فحتى كونها «أدباً مقتبساً»، إلا أن القدرة على «اختيارها» و«توظيفها» بهذه المجازية هي في حد ذاتها «إبداع» و«فن» يحتاج إلى التأمل، فهي انعكاس لما يحتضنه واقع من كتبوها، ثقوا كثيراً بمن يختار «الكلمة» للتعبير عما بداخله.