حمّاد السالمي
* ما هو أسوأ من السوء نفسه؛ أن يتكتل بعض الناس ضد البعض الآخر بدون وجه حق، وأن تصبح بعض القضايا الخلافية محاور أساسية للمنافرة والمحافرة، وأن تعمم المسائل الخاصة؛ أو تُشخصن القضايا العامة، حتى لا يبقى من هدف أمام هذا التكتل أو ذاك، إلا (سين) أو (صاد) من الناس، لتُحجب محاسنه، وتُبرز مساوئه، وتُشوّه صورته، وتُزوَّر سيرته، ويتعرض لحملات تكريه وتحريض منظمة ومبرمجة، في حرب سافرة لا هوادة فيها، وكأن بينه وبين المكرِّهين والمحرِّضين؛ ثارات قديمة من أيام داحس والغبراء:
إن يعلموا الخير يخفوه.. وإن علموا
شراً أذيع، وإن يعلموا كذبوا
* قادة وعلماء، وساسة وفقهاء، ومفكرون وكتَّاب، وإداريون ترجلوا بعد نضال وجهاد.. إلى آخر القائمة، تعرضوا ويتعرضون في العادة؛ لحملات تكريه وتحريض معروفة أهدافها، ومعروف من يقف وراءها، حتى لو تخفى الجبناء بأسماء مستعارة، وتستر الرقعاء برموز وهمية، أو من زاد وقاحة، فكشف عن نفسه، وجاهر بالسوء. ولو كانت الأهداف نبيلة، والوسائل مشروعة، لظهر خصوم شرفاء، ولبرزت قضايا موضوعية، يتفق عليها الناس أو يختلفون، لا بأس في ذلك، فهذه هي سنّة الله في خلقه: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}، و.. {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ }، ولكن الأهواء تقود أصحابها إلى مستنقعات من الفساد العقلي والخلقي، حتى لا يميزوا وقتها بين ما هو حق وما هو باطل، ما هو خير وما هو شر، فيأخذون في أكل لحوم البشر، وفي التعريض بأعراضهم، والتشويه لأشخاصهم، ناسين أو متناسين، أن هذا ليس هو خُلق الإسلام، ولا هو من مبادئه، بل كله مما جاء النهي عنه، والتحذير منه.
* للتمثيل على هذه الحالة حالات كثيرة، وأسماء أعيان أكثر؛ ما إن يجهر أحدهم برأي خاص في قضية عامة؛ حتى تتحرك ضده أذناب القطيع من منطلقات شخصية أو حزبية أو مذهبية أو قبلية. وإذا ترك أحدهم منصبه الكبير؛ وودع ميدان العمل لأي ظرف كان؛ تحرك ضده المنتفعون والمنافقون ممن كانوا حوله وبين يديه يسبحون بحمده ويضحكون في وجهه..! أين هي أخلاق القوم وقيمهم التي كانوا يدّعون..؟! وأين ما كانوا يبدون من حرص على الدين والوطن والمجتمع والعدالة والحقوق العامة والخاصة..؟!
* ما أكثر ما يبدي هؤلاء القوم من أحساد وأحقاد وضغائن، وما يبطنون أكثر. يكثرون من الشتم والسب والكذب من منابرهم ومحابرهم دون خجل أو وجل، ويجدون من الدهماء المغرورين بهم من يصدقهم ويصفق لهم ويتبع خطاهم:
لا يكذب المرء إلا من مهانته
أو عادة سوء، أو من قلة الأدب
* أعرف حشدًا من العلماء في تخصصاتهم، والأدباء والمفكرين وقادة الفكر والإدارة في أكثر من ميدان؛ الكل منهم يمتاز بدماثة الخلق، وحسن التعامل مع الآخرين- هو في غنى عن الدفاع عنه، فعمله الدؤوب المخلص يدافع عنه، وفهمه السليم وإخلاصه لدينه ومليكه ووطنه، يشهد له، ولكني أردت أن أعرض لحالة غير إنسانية ولا حضارية، تتلبسنا- مع الأسف- كلما اختلفنا مع بعضنا، فنوغل في الخصومة، ونشخّص الخلاف، ونمحو حسنات المختلف معه، وننشر سيئاته إن كانت له سيئات، أو نعمل جهدنا لخلق معايب، واختلاق سيئات، حتى نتشفى فيه:
قَلّ الثقات.. فما أدري بمن أثق
لم يبق في الناس إلا الزور والمَلَق
* إن للحقيقة لوناً واحداً، وللكذب ألف لون ولون، وهذا الغثاء الذي يلجأ إليه (المعاتيه) في حملاتهم التكريهية والتحريضية، ضد فلان وفلان من بني وطني؛ هو بيِّن الكذب، واضح الزُّور، جليّ البهتان، بعيد عن الحقيقة، ولو أن فيه ذرة صدق واحدة، لما تخفَّى أصحابه بأسماء مستعارة، ولما تستروا وراء حجب من التهويمات والبذاءات؛ التي لا تصدر عن عاقل:
الصدق في أقوالنا.. أقوى لنا
والكذب في أفعالنا.. أفعى لنا
* إن قدر الرجال العاملين بإخلاص وصمت، أن يُرموا بالحجارة، مثلهم مثل الأشجار المثمرة، التي تمنح الظل والثمر، وتنحني تواضعاً لا ضعفاً، بثقل ما تحمل من خير للناس كافة، لكنها تستعصي دائماً على الرماة الأشرار، من الحاقدين والحاسدين. ويكفي هؤلاء الكبار عزةً وشرفاً؛ أنهم أكبر من المُكرِّهين، وأشرف من المُحرِّضين:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها
فلم يضرها.. وأعيى قرنه الوعل
* إن هؤلاء المكرهين، وأولئك المحرضين؛ ما هم إلا خصوم لمبادئ وأخلاق تخلوا عنها في لحظة تغليب للذات الأمَّارة بالسوء. ما أسوأهم وهم يتلقطون كل ساقطة من أعداء وطنهم ومجتمعهم، فيشيعوها وينشروها عبر قنوات التواصل الاجتماعي، إرضاءً لنفوسهم المريضة تحزبًا وتمذهبًا، وتشفيًا من مجتمعهم ومحيطهم الذي لفظ ثقافة الجهالة، ورفض منهم الوصاية، وأصر على النهوض والسير مع المجتمعات والشعوب التي تبني وتشيد وتنظر إلى الأمام لا الخلف. من ينظر إلى الوراء لن يثبت له حاضر، ولن يكون له مستقبل، وثقافة القطيع المطيع ولّت إلى غير رجعة، أما ما بقي من رجيع الصحوة غير المباركة؛ فهو بارك لا مبارك.
* أود أن أقول (جهرًا لا همسًا) على الورق لدولتنا الفتيّة، ولوطننا العزيز، ولمجتمعنا النابه، ولكل عَلم بارز في بلادنا الحبيبة:
لا يضر البحر أمسى زاخراً
أن رمى فيه غلام بحجر