الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
على الرغم من تحقيق «المؤسسات المالية الإسلامية» نتائج إيجابية في المشهد العام، من حيث النمو والانتشار، واستقطاب العملاء، وتحقيق الأرباح.. إلا أن المجتمعات العربية والإسلامية ما زالت تتطلب المزيد من الجهود والبرامج والمبادرات، وصولاً لتحقيق الحياة الطيبة الكريمة لمجموع أفراد المجتمع، وعمارة الأرض بإحسان، والإسهام في الحضارة المعاصرة. من هنا يتأكد التساؤل:
كيف هذبت مبادئ وأصول ونظريات الاقتصاد الإسلامي مسألة «التجارة والاستثمار»؟ وما السبيل لتحقيق التنمية المستدامة في المجتمعات؟
كانت تلك التساؤلات التي طرحناها على عدد من خبراء الاقتصاد الإسلامي. وفيما يلي نص إجاباتهم:
تنظيم دقيق
بداية يوضّح الأستاذ الدكتور محمد عبد القادر، أن الهدف الرئيس للاقتصاد الإسلامي على المستوى الجمعي هو تحقيق الحياة الطيبة لكافة أفراد المجتمع، ومعيارها في ذلك الوصول بكل فرد إلى مستوى حد الكفاية، والذي يتضمن توفر حاجات الأفراد في مستوياتها الثلاثة (الضروريات، الحاجيات، التحسينيات)، وله في ذلك عدة آليات، وتسهم التجارة في الاقتصاد الإسلامي في تحقيق هذا الهدف بالتوفير من خلال التنظيم الدقيق لنشاط السوق، وهو تنظيم يقصي كل الممارسات الضارة بكفاءة وعدالة السوق، والتي من شأنها أن تخل بالمنافسة كمبدأ يكفل العدالة للمتعاملين في السوق من جانب، وتنتهي إلى أكل أموال الناس بالباطل من جانب آخر. أما فيما يتعلّق بتنظيم الاستثمار فإن ضوابط الاقتصاد الإسلامي تحتم أن يكون الاستثمار في مجالات الإنتاج النافع، وأن توجه رؤوس الأموال نحو قطاعات الإنتاج التي تحقق قيمة مضافة للناتج المحلي الإجمالي وتسهم في تحقيق الوفرة، ويحرم في هذا الإطار التمويل الربوي الذي يحول دون الاستثمار المنتج الذي يسهم في تحقيق الوفرة، وفي توليد فرص عمل حقيقية.
مجتمع المعرفة
ويفيد الأستاذ الدكتور عبدالله التوم، أن التجارة «وهي عصب الحياة» حظيت بأهمية متقدمة في الاقتصاد الإسلامي؛ لقيامها على مبادئ وأصول وأحكام يجب على المسلم الالتزام بها، وقيم وآداب يجب التحلّي بها. فالإسلام يحرم كل المعاملات الاقتصادية الفاسدة، كالربا، والقمار والرهان، والغرر ... إلخ. وكذلك يحث التاجر على أن يتحلَّى بالصدق، والأمانة، والعدالة، وعدم الإضرار بالآخر ... إلخ. ولقد كان لهذه المبادئ والقيم السامية أثر كبير على الممارسات التجارية الإقليمية والدولية.
وبالاستثمار يتحقق مبدأ الاستخلاف في الأرض وعمارتها بما يحقق أهداف التنمية المتوازنة، المتمثلة في تحقيق التشغيل الكامل، وتغطية النشاطات الاقتصادية ذات الأولوية، واستهداف الإنتاج، من أجل تحقيق الرفاه الاقتصادي. والاستثمار في الاقتصاد الإسلامي له أبعاد كثيرة، ليس فقط تحقيق الربح بالنسبة للمستثمرين كما هو حال الاقتصاد التقليدي. فالإسلام وقد وضع تشريعات تضبط المستثمر في سلوكه تجاه ماله، وعقيدته، ونفسه، والمجتمع الذي يعيش فيه.
وبما أن غايات التنمية المستدامة «عمارة الأرض» في الإسلام تتجه نحو مبدأ التوحيد والعبودية الخالصة لله تعالى، وتحقيق مقاصد الشريعة، فإن الله تعالى قد أمرنا بعمارة الأرض ونهانا عن الإفساد فيها، وذلك من خلال استغلال مواردها بصورة صحيحة لا تقتير فيها ولا تبذير، حماية لحقوق الجيل الحاضر، وحفاظاً على حقوق الأجيال القادمة. وكذلك حث الإسلام على حماية البيئة وصيانتها وعدم الإضرار بها. ومناط كل هذا هو الإنسان وأركز عليه دون غيره لأنه هو السبيل الأساس لتحقيق عمارة الأرض، وحتى يتثني له القيام بهذه المهمة على أكمل وجه لا بد من تأهيله وتدريبه وتثقيفه، حتى يكون مبدعاً، ومبتكراً، ومتطوراً، وطموحاً، وممسكاً بناصية التقنيات الحديثة والاتصالات والمعلومات «مجتمع المعرفة».
تفعيل صيغ التمويل والاستثمار
ويشير الأستاذ الدكتور رمضان الروبي، أن الواقع الإسلامي شهد صوراً عديدة لمشروعات إنتاجية متطورة بما يؤكد أن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد غير مغلق يدعم المنافسة لكونها نزعة فطرية تدعو إلى التفوق لبلوغ الغايات.
وقد أكد ابن خلدون -رحمه الله- علي أهمية دعم الاستثمار والتجارة بقوله: يعظم ربح التاجر بنقله سلعة من بلد تتوافر فيه إلى بلد تندر فيه.
ومن خلال قواعد الإسلام وأسسه يتم تفعيل الاستثمار والتجارة بتطبيقات يتميز بها الاقتصاد الإسلامي عن غيره من النظم الاقتصادية الوضعية كقاعدة المشاركة في المخاطر بما يحقق العدالة، ويحفز على العمل والإنتاج.
إضافة إلى تفعيل صيغ المضاربة والمرابحة والإجارة والسلم وغيرها من الصيغ التمويلية والاستثمارية.
كما يصون الملكية الخاصة، ويحميها ويشجع أصحابها علي العمل والإنتاج والاستثمار بما لا يضر بمصلحة المجتمع العامة - كالاحتكار وغيره - لكونها مصونة أيضاً وهذا بخلاف الأفكار الاقتصادية الوضعية التي ترعى مصلحة على حساب الأخرى. كما ضمن للمستثمر الشفافية ومعلومية الأسواق وأحوالها وضمن ذلك لجميع المتعاملين من تجار ومستثمرين علي قدم المساواة، ولذا حذَّر النبي صلي الله عليه وسلم من تلقي الركبان لكونها تعني ضبابية وعدم شفافية.
هذا ولكي تثمر الجهود وتؤتي أكلها حافظ الإسلام على تلبية احتياجات الجيل الحاضر وعدم الإضرار باحتياجات الأجيال القادمة وهذا ما يطلق عليه الآن التنمية المستدامة وفقاً لما صدر عن منظمة الزراعة والأغذية العالمية FAO، كما يؤكد الاقتصاد الإسلامي على أن هذه التنمية لا تتحقق إلا بمساهمة الجميع أفراداً وأسراً ومجتمعات.
وأيضاً يؤكد على ضرورة تعديل توجهات الاستثمار بما يحقق تنمية المجتمع بصفة عامة وليس مجرد أن تفوق العوائد التكلفة فقط وهذا ما أكدته أحدث الاتجاهات العالمية في تفعيل الاستثمار والتنمية المستدامة، وأخيراً للاقتصاد الإسلامي منهجه في تحقيق التنمية المستدامة في المجتمعات المختلفة من خلال المحافظة علي الموارد وتوفير مستلزمات الحياة الضرورية بما يضمن أيضا تنمية اجتماعية حقيقية.
وهنا أشير إلى تجربة فريدة ومتميزة تظهر الدور الحيوي والمهم الذي تقوم به المملكة العربية السعودية - حفظها الله -؛ لتحقيق التنمية المستدامة في الدول النامية بإنشاء الصندوق السعودي للتنمية في عام 1394؛ ليقوم بالإسهام في تمويل المشاريع الإنسانية والإنمائية في الدول النامية وهو دور ليس بغريب علي هذه البلاد الكريمة المعطاءة وهو نموذج واقعي حقيقي لتحقيق هذه التنمية في المجتمعات.
تحقيق التنمية المستدامة
ويؤكّد الدكتور محمد أحمد بابكر، على سبل تحقيق التنمية المستدامة، عن طريق حسن تخصيص الموارد، والتركيز على المشاريع الخادمة لشريحة الفقراء، والاهتمام بالمرأة وتمكينها من العمل والوسائل الإنتاجية المُدِرَّة للدخل، وتعزيز صحة السكان ونشر التعليم وإتاحته للجميع.
التوازن في الاقتصاد الإسلامي
ويبيّن عبدالقيوم الهندي، أن الاقتصاد الإسلامي نظام أخلاقي يقوم على الحوافز الذاتية، والرقابة الداخلية، والدوافع الأخلاقية، قبل غيرها؛ ولذا وجد التوازن بين النشاط الربحي وغير الربحي في الاقتصاد الإسلامي، فمثلت فريضة الزكاة، الركن الثالث من أركان الإسلام، في دلالة على موقع النشاط غير الربحي من النظام الاقتصادي الإسلامي، كما جاء الحث على أعمال البر والمعروف ومجموع ما يحقق التكافل الاجتماعي، والحياة الطيبة الكريمة لمجموع أفراد المجتمع.