محمد آل الشيخ
أكثر أمة على هذا الكوكب لا يتعظون من تجاربهم، ولا يتعلمون من تاريخهم، هم -للأسف الشديد- الغلاة المتشددون والمتزمتون في بلادنا. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، فهم في البداية يُعارضون أيّ جديد، ويرفضونه، بغض النظر عن نفعه من ضرره في المحصلة، ثم مع الزمن يستكينون ويتعودون فيرضخون، ليس ذلك فحسب، وإنما يتخذونه في أحايين كثيرة وسيلة للوصول إلى الناس دون أي حياء. حدث ذلك في تحريمهم للبرقية، ثم للإذاعة، كذلك للميكرفونات في المساجد، ثم التلفزيون وغيرها؛ فهم في البداية يقيمون الدنيا ولا يقعدونها رافضين ومعارضين، ويتخذون لإيصال فتاويهم المتشددة كل الوسائل حتى تلك التي كانوا يحرمونها، ويلوون أعناق الأدلة لتتماهى مع أهوائهم، حتى يُخيل لمن يقرأهم أو يسمعهم، أن ما يقولونه، وما يحذرون منه، قد اتفق العلماء جميعهم عليه، اتفاقهم على تحريم الكبائر، وما هي إلا فترة وجيزة من الزمن حتى يتعودون عليها وتصبح ممارسة طبيعية.
والغلاة المتشددون يكرهون أشد ما يكرهون أن تحتج عليهم بأنها مسألة خلافية بين العلماء، فيصفون العلماء الذين يخالفونهم إما بالجهل، أو لين الدين، أو أنهم (من علماء السلاطين) الذين لا يُعتد بفتاويهم. فهم في الغالب الأعم لا يناقشون، ولا يدحضون الحجة بالحجة، ولا يدفعون الذي هو أعظم بالذي هو أدنى في التحريم، وإنما القول لديهم قول واحد، ومن شذ عما يقولون فقد ارتكب إثماً عظيماً.
الغناء والمعازف -مثلاً- من المسائل التي اختلف حولها علماء المسلمين منذ أمد بعيد، فهناك من أجازها كما أن هناك من حرمها، وهناك -أيضاً- من أجاز الدفوف فقط وحرم ما عداها من الآلات الموسيقية. وأغلب علماء المسلمين المعاصرين يجيزونها، ولا يحرمون سماعها اللهم إلا فرقتي طالبان والدواعش؛ فهؤلاء لا يعتدون بالخلاف أصلاً، فالقول في قواميسهم الفقهية قول واحد، إما حلال أو حرام؛ رغم أن علماء كبار أباحوها، وعلى رأسهم الإمام ابن حزم فقيه الأندلس الشهير، وآخرون وإن كانوا أقل منه تبحُرا في العلم وأصول الفقه. وأتذكر أن علماءنا هنا في نجد لا يستمعون إليها تحوّطا في الغالب، ولا يتشددون في النهي مع من يستمعون إليها، إلا بعد (بزوغ فجر) الصحوة القميئة، فأصبح غلاة الصحويين من خلال المحتسبين يتتبعون الحفلات الموسيقية، ويمنعونها قسراً، ويُكسرون آلات الموسيقى، وللأسف لم يمنعهم أحد.
الآن اختلف الوضع، وأصبح للدولة هيبة ومنعة فإذا صدر ترخيص لفعالية فنية أو ثقافية فلا يجرؤون أن يعترضوا عليها، كما أن منابر الجُمع في المساجد قد تمّ السيطرة عليها، وضُبطت مواضيع خطبها، فمن تمرد على التعليمات يُعزل فوراً، فلم نعد نسمع تلك الأصوات النشاز المحرضة على الدولة، ولا من يتبجحون بنقد الفعاليات الثقافية أياً كان نوعها، طالما أنها مرخصة؛ وبالتالي فلم يعد لديهم إلا الإنترنت، يتقيئون فيه، وبأسماء مستعارة مما لا يجرؤون أن يقولوه بأسمائهم.
وأنا على يقين لا يخالجه شك أن فعاليات هيئة الترفيه ستمر مثل ما مر التلفزيون، سيجعجعون الآن، ثم لن تلبث جعجعتهم إلا أن تهدأ. والمنطق هنا يقول: من رأى حرمة هذه الفعاليات فلا يحضرها، ومن يرى أنها مباحة فله الحق أن يحضرها. أما أن يجعلون لهم (وصاية) على المجتمع، فيحللون ويحرمون، فهذا لن ترضاه دولة سلمان، لأن في هذه الوصاية افتئات على ولي الأمر صاحب البيعة.
بقي أن أقول: القاعدة الفقهية الشرعية تقول: (حكم الحاكم يرفع الخلاف)، والحاكم هنا بمثابة القاضي، الذي إذا رجح اجتهاد على اجتهاد في مسألة خلافية، فليس لك حق الاعتراض، إنما السمع والطاعة.
إلى اللقاء،،،