عماد المديفر
كنت تناولت في هذه السلسلة عرضاً معمقاً، وموجزاً في ذات الوقت، للتطورات الحديثة في بناء النظرية في العلاقات العامة، انطلاقاً من مرحلة ما بعد نموذج «الاتصال المتوازن ثنائي الاتجاه»، وصولاً إلى بناء نظرية «الامتياز» في العلاقات العامة الدولية، والتي تعد -كما ذكرت سابقاً- طفرة علمية، ونقلة نوعية، في مجال بناء النظرية في العلاقات العامة، وكيف أنها جاءت كتطورٍ ونتيجة للتراكم البحثي والمعرفي عبر سلسلة من الدراسات التي قام بها «جيمس قرونيق» ورفاقه وتلاميذه على مدى ثلاثين عاماً، وأنها -أي نظرية «الامتياز»- تطوير للنموذج الرابع من نماذج «قرونيق» المعيارية، وانتهيت في الحلقة الماضية إلى تناول أثر الفضاء التفاعلي عبر الانترنت في تعزيز مفهوم الاتصال المتوازن كأحد أهم ركائز نظرية الامتياز، وكيف أن الانترنت جاءت لترسخ معقولية مفهوم التوازن، ومنطقيته، وترد على المشككين به، ولا سيما أن هذا المفهوم (أي التوازن في الاتصال) تعرض للكثير من الانتقادات التي تحدثت عن عدم واقعيته.
بيد أن الانتقادات لهذه النظرية، والأبحاث المعتمدة عليها، لم تتوقف، وكان أس ذلك استمرار رؤية العديد من الباحثين بأنها مثالية، وخيالية، وغير واقعية من ناحية «التماثل» أو التوازن» في الاتصال كما مر معنا، حيث ردوا تبريرات قرونيق، كما أنهم يرونها غير صالحة للتعميم عالمياً، ولا تمثل العلاقات العامة الدولية.
ويلخص لي Lee تقييمه العام لحال البحوث العلمية في مشروع الامتياز في العلاقات العامة الدولية فيقول : «ما تفتقده هذه الدراسات المعنونة بالعلاقات العامة الدولية والخصائص «الدولية» للعلاقات العامة، هو أنه من الواضح أن الدراسات الوصفية التي تركز على دولة بعينها بدون الخروج بأي تعميمات لا تقدم بالكاد معلومات نستطيع أن نقول عنها إنها إقليمية، ومجرد إضافة المزيد والمزيد من هذه الحالات المستقلة (الدول) لا يعطينا أي قوة تفسيرية. وعلى الرغم من أن نظرية الامتياز العالمية (والمكونة من مبادئ عامة أصيلة، وتطبيقات خاصة) هي محاولة لتحقيق تقدم تنظيري في فهمنا للعلاقات العامة الدولية، إلا أنها أيضاً محاولة تنظيرية محدودة، فوحدة التحليل التي تركز عليها دراسات الامتياز لا تزال دولة واحدة (بدلاً من أن يكون التحليل منصباً على التفاعل بين دولتين أو أكثر)، ولهذا السبب فإن تصميم البحث الشائع لهذه الدراسات التي تختبر امتياز العلاقات العامة هو قيام الباحث بنسخ أو تطبيق أسئلة الامتياز على دولة بعينها ليرى ما إذا كان سيجد نتائج مشابهة لتلك التي وجدها في الدراسة الأم، فإذا وجد تشابهاً فإن المبادئ الأصيلة نجحت، وإن لم يجد فإن التطبيقات الخاصة تكون جديرة بالانتباه...! إن تقييم الامتياز العالمي في كل دولة بمفردها لا يستطيع أن يقدم إلا التشابه أو الاختلاف في الخصائص «عبر الدولية Transnational» وليس الخصائص «الدولية International» وهي التي تهمنا».
وبذلك عمل الباحثون على مسارين، مسار يبحث في عالمية العلاقات العامة، ومسار يعمل على تطوير نظريات تفاعلية تحاول أن تحقق الفهم الأعمق والواقعي لممارسات العلاقات العامة، ومنه -على سبيل المثال- ما قام به Van Ruler من تطوير لنموذج اتصالي في العلاقات العامة أطلق عليه : «نموذج الشبكة الاتصالية»، حيث يفترض أن ممارسي العلاقات العامة يمارسون أنشطة اتصالية أحادية الاتجاه، وغير متوازنة، على الرغم من اعتقادهم بممارسة الاتصال ثنائي الاتجاه. ويفترض هذا النموذج أيضاً وجود أربع استراتيجيات أساسية يوظفها ممارسو العلاقات العامة لأغراض الاتصال بين المنظمة والجمهور:
استراتيجية الإعلام : وتستهدف مساعدة الجمهور لتكوين رأي عام أو اتخاذ قرار.
استراتيجية الإقناع : وتتجسد بالدعاية والإعلان بهدف التأثير على معرفة واتجاه سلوك الجماهير من خلال مجموعة من الرسائل الإقناعية.
استراتيجية بناء الإجماع: وتعمل على بناء جسور بين المنظمة والجماهير لحل الصراعات، والوصول إلى اتفاق وتوافق.
واستراتيجية الحوار : بهدف اكتشاف القضايا والمشكلات وتسهيل التفاعلات والنقاش بين الطرفين.
وكلها تهدف إلى تحقيق مصالح المنظمة بغض النظر عن مصالح الجمهور.
إلى اللقاء.