د.محمد بن عبدالرحمن البشر
النفس البشرية تصارع ذاتها بين الخير والشر، والسعادة والحزن، والأنفة والخنوع، والرأفة والقسوة، والصبر والاستعجال، والتأني والحزم، وغيرها كثير، وتدفعها لاختيار عوامل بيئية ووراثية، وغالباً ما يصل العامل الوراثي إلى الانتصار في الاختيار، لأنه الأقرب لإقناع النفس بالميل إلى ما تهواه، والنفس في الغالب يسعدها نيل ما تهواه، لكنها تحتاج إلى مبرر يرفع عنها حرج الخوف من الأثر الذي قد يكون سيئاً باتباع الهوى.
لاشك أن العامل الإيماني يلعب دوراً أساسياً في ردع ما جبل عليه الإنسان والتمادي فيه بسبب ما يحمله ذلك الإيمان من معانٍ نبيلة، قد تجره إلى الجانب الخير، لكن المبررات التي تسجلها النفس لتوافق الهوى قد تكون مطية للاختيار بين المتناقضين، إما الخير أو الشر، أو إحدى الدرجات العديدة بينهما، فقد يكون إنسان ما مجبول على استجلاب الشر، لكن العامل الإيماني يمثل بين ناظريه ليحد من اندفاعه نحو الشر، لكنه قد يجد من النصوص ما يفسرها بما يتماشى مع توجهه، أو قد يلجأ إلى من يفعل له ذلك، وهذا واضح للعيان في سلوك الإرهابيين عند قدومهم على فعل إرهابي في أي مكان في العالم، فقد تجسد في عقله الإيمان بأن ما يفعله صواباً، لأنه في ذاته قد كان جاهزاً لذلك الفعل لسبب بيئي أو وراثي، فاختطفه المؤولون للوصول إلى غايتهم.
والقيم الموروثة لها دور بارز في الإقدام على فعل الخير أو الشر ولكنها أيضاً تحتاج إلى محفز ذاتي أو خارجي، وقد علمنا ما حدث في دولة مالي، وقد حدث في دول أخرى، من تناحر قبلي واسع بدافع ثقافي موروث، ولا شك أن الدافع الإيماني لم يكن حاضراً إطلاقاً لأن الموروث الثقافي قد هيمن على العقل، وساق من لديه عاملاً جينياً يؤهله لأن يقوم بهذا الفعل الإجرامي، الذي يغلب فيه التلذذ بالانتقام، وهذا نسمع عنه أيضاً بين الأفراد، أو عدد محدود من قبيلة إزاء قبيلة أخرى، ولا شك أن من يقوم بالفعل هم مجموعة مهيئة جينياً للإقدام على ذلك، وقد قاموا بفعلهم المشين بتحفيز من الموروث الثقافي.
الدافع المادي، يمكنه أن يكون عاملاً محفزاً لظهور العامل الجيني للفرد، أو المجموعة، إذا ما كان الانضباط لدى الدولة أو المجتمع كافياً، وهذا ما قرأناه عن التاريخ المديد للشعوب، وقد حمل لنا الكُتاب والرواة قصصاً عديدة عن تلك الأحداث، وعندما يقرأ المرء عن بعض ما حدث في المشرق والمغرب وفي العالم أجمع، سيجد الكثير من ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر تلك الغزوات التي تنطلق بعدد محدود من الأفراد القادمين من شمال أوروبا، لغزو سواحل الأندلس الغنية والمتحضرة، ويسرقون ما استطاعوا من مال وعتاد ونساء، ثم يعودون أدراجهم وهكذا كانوا يفعلون على فترات متعددة على مدينة شنترينا الساحلية الأندلسية وغيرها، مما جعل الأندلسيين يكونون إسطولاً بحرياً لردعهم، وهذا ما نجده أيضاً في قلب إفريقيا كما نقله لنا ليون الإفريقي، الذي ذكر أكثر من مرة غزوات البدو على بعض المدن والقرى ونهب ما استطاعوا نهبه، وفي المشرق وتاريخه القديم والتليد، نجد الحديث عن الكنعانيين في العراق وسوريا والأردن وفلسطين، والبوادي المحيطة، وما كانوا يفعلونه في المدن، ناهيك عما تتعرض له حضارة مصر الفرعونية العريقة من غزو مستمر من تلك البوادي المجاورة، ومثلها في الصين قديماً وأمريكا في بداية نشأتها.
الخير أيضاً جينياً وعاملاً وراثياً في الفرد تبرزه العوامل البيئية، ورأينا في عصور مضت وفي عصرنا الحالي الكثير من الخير بين الذين يفعلون الخير الذي جبلوا عليه، واستجلبوا الدافع الديني، والخلقي والقيم النبيلة، لتكون محفزاً للمزيد من فعل الخير سواء بالمال أو العفو والصفح، أو التسامح والتجاوز عن الزلات، أو مساعدة الغير في كرب من كرب الدينا الكثيرة، أو الابتسامة وكلمة الخير، أو السعي لقضاء حاجة فرد أو جماعة.
كل ذلك يرافقه سعادة لتحقيق غاية أياً كان اتجاهها، أو حزناً عندما لا تتحقق الغاية، وفي النهاية فإن هذه الدنيا فانية، ويبقى ما سيلقاه الفرد أمامه بعد موته.
والحقيقة أن لذة فعل الخير لا تضاهيها لذة، وفعلها بيد المرء يستطيع تكرارها عدة مرات لتزداد عنده السعادة.