د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** روى الدكتور محمد محمود الطَّناحي 1935-1999م عن شيخه «العلامة محمود محمد شاكر» 1909-1997م أن مجلسه ذات جمعة بعد ثورة يوليو «تموز» 1952م ضمَّ عددًا من الكبار، وفيهم الشيخ أحمد حسن الباقوري، ووزير الشؤون الاجتماعية حينها محمد فؤاد جلال، ومعهم -كما قال- «الأسطى أنور الحلاق»؛ فعاتبه الوزير من الغد برسالة هاتفية حملها إليه الباقوري، فلما كانت الجمعة التالية قال أبو فهر للوزير: «اسمع يا فؤاد: أنت وزير هناك في مجلس الوزراء، ولكنك هنا في بيتي واحد من عامة الناس مثلك مثل الأسطى أنور وغيرِه».
** وشهد صاحبُكم في مجلسي أستاذينا عبد الرحمن البطحي 1938-2006م وعبد الرحمن العثيمين 1946- 2014م «اليومين المفتوحين» تقدمَ عامل على صاحب عمل، وتصدر رجل من العامة على حامل شهادة عليا، ووجود اسمٍ مغمور بجانب رمز مشهور، واقتعد الشيخ عبدالله الفالح 1928- 2012م مكانًا قصيًا في المنتديات التي ارتادها مع سعة علمه وسعي المتعلمين إليه، وكذا تجيءُ أخلاق الكبار بمقدار قِيمهم الكبيرة، ومدارُها رفعةُ من يحملون رسالة الكلمة كي يكونوا المقتدِين والمقتدَين، ومسارها زهدٌ في مجالس الترف ونأيٌ عن بريق الواجهة واعتزازٌ بالجذور التي نبتوا منها وطمأنينة بالتربة التي سيؤولون إليها.
** نلوذ بمثل هذه الحكايات الجميلة حين يستغرق بعضَ أجواء المثقفين تعاتبٌ عمن دُعي إلى مناسبة ومن تُجوهل، ومن حضر ندوةً أو حاضر فيها ومن لم يرتدْها أو يعلم عنها، وتدور في ثنايا الحوار قوائم مختارة أو يظنونها كذلك مشفوعةً باتهامات «الثُّلة» و»الشِّلة» وما في حكمهما، ويحمد اللهَ من ابتسم في سرِّه على ثقافةٍ لم تحمِ أربابَها من التهافت على الفتات؛ فخيرٌ لهم أن ينأوا ليُقصدوا، وقيمةٌ للثقافة ألا يصطفَّ من يُوسم بها مع منتظري الدعوات وملحقاتها.
** لا ينفصل هذا الأمر عن تحاسد «من يوسمون» بالمثقفين، وبخاصةٍ أن فيمن يلُون بعض الأمور التنظيمية من يَمنحون أو يمنعون وفقًا لعلائقهم ورغائبهم، وهو مؤلمٌ ليوم الثقافة وغدِها فوق مساسه بشخوصٍ أو شواخص، ولعل الاعتذار المعبر عن الاعتراض «الصامت» سيلغي مثل هذا التمايز؛ فالقيمة الفعلية «النهائية» محصورة في نتاج المثقف الذي سيُرى في حياته ويبقى بعد رحيله.
** الموقفُ المبدئي مهم، وأهمُّ منه ألَّا يتحول المثقف نفسُه إلى بيروقراطيٍ سلطويٍ؛ فتنبعث في نفسه أدلجةٌ ساكنة أو عصا مستترٌ فيأنس بمكانته موافقوه ويهاب مكانَه مخالفوه، ويُنعم على أولئك بالاصطفاء ويمسُّ أولاءِ الإقصاء، والعتبُ لا يطالُه وحده بل يمتد إلى من يلتمس نفعًا تحت مظلته، وحين اعتقد زكي مبارك 1892-1952م أن بعض متنفذي الثقافة في بلده حجبوا بعض حقوقه لم يتنازل فعاش على هامش الحياة وما كان ذلك حقَّه في نفسه ولا حقَّ الثقافة فيه.
** المرءُ موقفٌ لا موقع.