د.سالم الكتبي
لا يكف النظام الإيراني في الآونة الأخيرة عن إصدار التحذير تلو الآخر للدول الأوروبية، وآخر تلك التحذيرات ماورد على لسان القادة والمسؤولين الإيرانيين خلال زيارة وزير الخارجية الألماني هايكو ماس إلى طهران، حيث استمع إلى تحذيرات متكررة مما يصفه الملالي بالحرب الاقتصادية، وأنه «لا يمكن توقع أن يكون الذين أطلقوا هذه الحرب ويدعمونها في أمان».
هذا التحذير ورد على لسان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف وتناقلته وكالات الأنباء، ويوفر دلالة واضحة على الاستفزاز الإيراني للمجتمع الدولي. فمن المعروف أن الوزير الألماني يقوم بزيارة إلى إيران لتهدئة التوتر المتصاعد في علاقاتها مع الولايات المتحدة، وليس للاستماع إلى تهديدات بتقويض الأمن ليس فقط لدى من يتهمهم الملالي بشن حرب اقتصادية على إيران، بل أيضاً على من يتصور هذا النظام البائس بأنهم يدعمون تلك «الحرب».
ندرك تماماً أن تصريحات ظريف تعكس مستوى الألم وحجم الأزمة التي يعانيها النظام الإيراني، ولكن من قال إن تهديد طرف محايد في الأزمة سيؤدي إلى النتائج التي يرغبون بها؟.. هكذا يفكر الملالي من واقع رؤيتهم المبتسرة للأمور، فنظام ضيق الأفق لن يخرج سوى هذه المواقف والتهديدات التي يعتقد أنها ستدفع بالجانب الأوروبي لتخفيف الضغوط عن إيران من دون أن يفكر في سبل تحقق ذلك.
الحقيقة أن الاتحاد الأوروبي لا يمتلك بدائل سياسية فاعلة لإنقاذ الاتفاق النووي الموقع مع إيران، كما لم يستطع تنفيذ آلية التعاون الاقتصادي مع إيران بمعزل عن القنوات الأمريكية والتفافاً على عقوبات إدارة الرئيس ترامب، حيث عجزت «أداة دعم المبادلات التجارية» (انستكس) التي أطلقتها فرنسا وبريطانيا وألمانيا منذ أشهر بهدف الالتفاف على العقوبات الأمريكية، فكيف لأوروبا أن تضغط على الولايات المتحدة من أجل إخراج الملالي من الزاوية التي حشروا أنفسهم بها بتعنتهم واستعلائهم وغطرستهم التي تسببت فيما آلت إليه الأمور بالمنطقة.
ألمانيا ترى أن الاتفاق النووي لا يزال قائماً، وأن انسحاب الولايات المتحدة منه لا يعني انتهائه، وأن على إيران احترام التزاماتها الواردة في هذا الاتفاق، وأن تحافظ على قنوات الحوار مع أوروبا، ولكن الملالي يرون أن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق يعني وفاته إكلينيكياً وأن الأطراف المتبقية التي تمثل الطرف الآخر في الاتفاق، وهي 5 دول كبرى، يجب أن تصطدم مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق مصلحة النظام الإيراني.. بل عن الملالي يتهمون الأوروبيون بأنهم ليسوا على مستوى التزاماتهم التي تعهدوا بها بموجب الاتفاق النووي الموقع في فيينا عام 2015.
وزير الخارجية الألماني أكد في طهران أن الاتفاق «ينطوي على أهمية قصوى لأوروبا» وأوضح أنهم «لا يريدون أن تمتلك إيران أسلحة نووية»، وأكد ماس أن ألمانيا وشركاءها الأوروبيين «بذلوا أقصى جهودهم للوفاء بالتزاماتهم» بموجب هذا الاتفاق، وهذه حقيقة، ولكن الملالي يريدون انحيازاً لهم، وليس لما تم الاتفاق عليه ويتضمن التزامات لكل طرف من الأطراف الدولية الموقعة.
الاتفاق النووي يضم إيران من جهة، ومجموعة «5+1» (الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا) من جهة ثانية، وبعد انسحاب واشنطن، هددت إيران في مايو الماضي بالخروج تدريجيا من هذا الاتفاق ما لم يساعدها شركاؤها، ولاسيما الأوروبيون منهم، في الالتفاف على العقوبات الأمريكية، وهنا يبدو الأمر غريباً، فلم يقع عبء إنقاذ الملالي على الأوروبيين وحدهم؟ ولمَ لم يطالب الملالي روسيا -على سبيل المثال- بمساعدتهم في الالتفاف على العقوبات الأمريكية؟.. ولماذا لم يعترضوا على وقف الصين شراء النفط الإيراني التزاماً بالحظر الأمريكي لشراء النفط الإيراني؟!.
الواقع يقول: إن الملالي لديهم رؤية قاصرة في التعامل مع أوروبا، ومقتنعون بأن الاتحاد الأوروبي الطرف الأضعف في معادلة علاقتهم مع الغرب، ويمارسون أقصى الضغوط على أوروبا في حين يتعاملون بشكل مغاير مع الصين وروسيا، ورغم أن النظام الإيراني قد شمل روسيا والصين بما أسماه مهلة «تفعيل الالتزامات الواردة في الاتفاق النووي لاسيما ما يخص قطاعي النفط والمصارف»، فإن لغة التحذير لا تصدر سوى تجاه أوروبا.
الملالي يراهنون على الخلافات القائمة بين أوروبا وإدارة الرئيس ترامب وصعوبة تحالف الطرفين ضدها في الوقت الراهن على الأقل، ولكن استمرار هذه الغطرسة الإيرانية في تجاهل التأثير والدور الأوروبي الإستراتيجي في العلاقات الدولية قد يعجل بجسر هوة الخلافات الأمريكية - الأوروبية، ويدفع الأوروبيين لدعم خيارات الرئيس ترامب في التعامل مع النظام الإيراني، أو على الأقل قد يدفعهم لوقف جهودهم لتهدئة التوترات المتصاعدة وترك هذا النظام البائس لمواجهة مصيره الذي يستحق.