ياسر صالح البهيجان
تواجه المدن الكبرى حول العالم أزمات متعددة منها تزايد معدلات استهلاك الطاقة، وارتفاع أحجام النفايات الناجمة عن تسارع النمو في المدن الحضرية، وازدياد انبعاث الغازات الملوثة للهواء، وغيرها من التحديات الرئيسة التي تجدف عكس تيار جودة الحياة في المدن، ما أسهم في نشوء نموذج اقتصاديّ يُدعى «الاقتصاد الدائري» والذي يهدف إلى المحافظة على قيمة المنتجات وإطالة عمر استخدامها، مع الحرص على إعادة تدوير المستهلك منها بعد إزالة المنتجات الثانوية الضارة عبر بيئة إنتاج تحفل بالابتكار.
ويرى منظِّرو الاقتصاد الدائري أن التدفق الصناعي عبارة عن كائنات حيَّة، والمخلفات تعد عناصر غذائية يمكن الاستفادة منها باستمرار في إيجاد منتجات ثانوية لا تقل أهمية عن الأولى، ما سيسهم في إعادة بناء رأس المال البشري والاجتماعي والتصنيعي والمالي من خلال تدوير المنتجات المستهلكة بطريقة تعظم من عوائدها على الاقتصاد، وتقلِّل من حجم الضرر على البيئة والإنسان.
وسينتج عن تبني نموذج الاقتصاد الدائري - حسب تقرير مجلس الجمعية الصينية لبحوث التنمية المستدام- استحداث صناعات جديدة، هي صناعة البيئة، وإعادة تدوير المخلفات، وتوفير الطاقة وخفض استهلاكها، والطاقة المتجدِّدة، والصحة، والاقتصاد الخدماتي، والتصاميم والتصورات الإبداعية، إذا ما علمنا بأن 90 بالمائة من المواد الخام المستعملة في التصنيع تتحول إلى نفايات وهي لا تزال في المصانع، فضلاً عن 80 بالمائة من المنتجات يتم التخلص منها خلال الأشهر الستة الأولى للاستخدام، وفق دراسات دولية.
الاقتصاد الدائري من شأنه تحفيز النمو المستدام طويل الأجل، وتحسين جودة الحياة في المدن بما يتفق مع الاتجاه العالمي في مجال التنمية المستدامة، وما يميزه هو مراعاته للجانبين الاقتصادي والبيئي في آن واحد، فهو يسعى للمحافظة على بيئة نظيفة صديقة للإنسان دون إغفال أهمية تحقيق معدلات نمو إيجابية اقتصاديًا. ومن المتوقع أن يسهم هذا النوع من الاقتصاد في زيادة إنتاجية استغلال الموارد في أوروبا بنسبة تبلغ (3 %) بحلول عام 2030، ويمثِّل هذا الرقم توفيراً في التكلفة بقدر 600 مليار يورو، و1.8 تريليون يورو في منافع اقتصادية أخرى، وتوظيف 160000 شخص إضافي في قطاع استرداد المواد.
وفي ضوء اتجاه المملكة لتنفيذ برنامج تحسين جودة الحياة في إطار رؤية 2030، فإن الاقتصاد الدائري قادر على تمكين مدننا من مواجهة التحديات المناخية، والاستفادة على نحو أمثل من مواردنا الطبيعية، والتقليل من معدلات استهلاك الطاقة المرتفعة لدينا، إلى جانب تعزيزه لقيم الابتكار والإبداع بتحويل مختلف المخلفات الصناعية إلى مواد أخرى قابلة للاستهلاك من جديد بتكوينات صديقة للبيئة.
ولا شك في أن تبني نموذج الاقتصاد الدائري سيواجه العديد من المصاعب، إذ هو بحاجة إلى رفع مستوى الوعي حول أهميته وأهدافه وطرق الاستفادة منه لدى المجتمع عامة، والقطاع الخاص على وجه الخصوص، وسن نظم تشجيعية تحفز المصنعين على إنتاج مواد استهلاكية قابلة لإعادة التدوير، وتأهيل العاملين الجدد في مجالات مستحدثة وظيفتها الاستثمار في الاقتصاد الدائري، ولكن الإرادة القوية قادرة على ابتلاع جميع تلك التحديات، لضمان الوصول إلى مدن ذات جودة حياة عالية.