عبدالوهاب الفايز
الحوار الأخير لسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لجريدة (الشرق الأوسط) يمكن النظر له من عدة جوانب، فالقضايا الإقليمية والعالمية التي تناولها الحوار تضعنا في مواجهة متطلبات (المكانة الجيوسياسية المحورية للدولة)، وهذا موقف صعب ومكلف علينا تحمله، وعلينا قبول ثمن التكلفة المترتبة عليه في الساحة الإقليمية والدولية.
أيضاً يضعنا الحوار أمام (ثنائية الثابت والمتحول)، التي تطورت في آلية وذهنية الحكم، وجاءت بـ(التعلم والتحلم)، أي التعلم من التاريخ، والحلم والحكمة في رعاية مصالح الناس وإدارة الأمور الكبرى، للدولة، وهذه مدرسة المؤسس الملك عبدالعزيز، -يرحمه الله-، الذي جرب الأمور الكبيرة وتصدى للأحداث والظروف الصعبة حين تأسيس وبناء الدولة.
أول ما يشد في الحوار هو ممارسة ثنائية، (الثابت والمتحول)، في العلاقة مع أمريكا وجميع القوي العظمى، فمنذ عهد الملك عبدالعزيز الذي وضع الأسس الواقعية للتعامل مع الدول الكبرى، فلا يمكن التصادم مع المصالح العليا لهذه القوى لأن هذا سوف يأخذ العلاقة إلى (ثنائية القوى الكبرى والقوى الصغرى)، وبيت الحكم له تجربة أكثر من 300 عام في الحكم تعلم منها الدروس الحقيقية الواقعية، وهذا تجده في حديث الأمير محمد عن العلاقة مع أمريكا.
الحكم الواعي لمصالح شعبه لا يستسهل التضحية بعلاقة إستراتيجية مع دولة عظمى لمجرد ظهور متغيرات وتحديات ومشاكل طارئة، أو (حملة إعلامية مرتبة من عدو)، فالحكم الواعي للحقائق والمدرك لمتطلبات الواقعية السياسية يأخذ الأمور بكل الأبعاد، وهذا يعود، كما يقول الأمير محمد: (إن علاقتنا بالولايات المتحدة مهمة ومحورية، ليس فقط لتحقيق المصالح المشتركة بين بلدينا، سواء على الصعيد الاقتصادي أو الأمني أو غيرها من المجالات، ولكنها عامل أساسي في تحقيق أمن المنطقة واستقرارها.).
أما الثابت والمتحول في العلاقة مع جبهة ساخنة مثل اليمن، فالثابت كما يقول إن المملكة لن تقبل (استمرار الميليشيات وبقائها خارج مؤسسات الدولة)، أما المتغير فهو التأييد لجهود (التوصل لحل سياسي وفق قرار مجلس الأمن الدولي 2216)، وغيره مما تم الاتفاق عليه، لأن المهم هو تحقيق مصالح الشعبين اليمني والسعودي.
مثال الواقعية السياسية لثنائية الثابت والمتحول نجده في الموقف من الأحداث في سوريا والسودان.. إذاً بقاء نظام الأسد ضروري للتحول السلمي وتحقيق وحدة سوريا وبقاء الكيان، فالمملكة قيادة وشعباً مع هذا الهدف الأسمى. والأمير محمد يقول: إننا مع (استخدام الوسائل المتاحة كافة لتحقيق الانتقال السياسي وفق القرار 2254، بما يحافظ على وحدة سوريا.).
وكذلك لدينا نفس التطلعات والأهداف مع السودان، فعدم انهيار مؤسسات الدولة وبقاء السودان دولة موحدة يحقق مصلحة الشعب السوداني.. وما يقوله الأمير محمد هو أن موقف المملكة في شئون المنطقة يحكمه الثابت وهو المصالح العليا للشعوب، وإذا المتغير يخدم المصلحة العليا فهذا مهم حتى لو تطلب التغاضي عن أخطاء النظامين السابقين، في سوريا والسودان. وهذا الموقف السياسي نراه أيضا مع إيران، فإذا هناك مصالح عليا تتحقق للشعب الإيراني؛ فالمملكة دوماً مستعدة لأن تمضي مع الحكومة الإيرانية في أي مشروع سلام حقيقي يخدم شعوب المنطقة.
وأيضا الواقعية العاقلة تطرح نفسها في وضع آخر متوتر وهو العلاقة مع تركيا.. فالأمير محمد يأخذ العلاقة بين البلدين في سياق تاريخي يتجاوز إشكالات الحاضر ويتسامى عليها، وهذا يفرضه الثابت في رؤية الحكم، (فالمملكة بوصفها حاضنة الحرمين الشريفين تسعى لأن تكون علاقاتها قوية مع كل الدول الإسلامية، بما فيها تركيا، وهذا أمر مهم لمصلحة المنطقة بشكل عام والعمل الإسلامي المشترك بشكل خاص).
وفِي موضوع الإرهاب والتطرف أكد على الثابت، وهو المعالجة الشاملة المستمرة، وسموه يقول بكل وضوح: (ولن نضيع الوقت في معالجات جزئية للتطرف، فالتاريخ يثبت عدم جدوى ذلك.. ونحن ماضون بإذن الله، من دون تردد، في نهجنا بالتصدي بشكل حازم لكل أشكال التطرف والطائفية والسياسات الداعمة لها.).
وفي الشأن الداخلي، الثابت هو ضرورة تحقيق أهداف الرؤية وهذا توجه صارم لا رجعة عنه، ولكن في التنفيذ لا توجد مكابرة أو عدم واقعية، فالخطط الإستراتيجية (لابد من أن تخضع لتحديث وتعديل وفق الظروف والمعطيات التي تظهر عند التطبيق، دون الإخلال بركائز ومستهدفات الرؤية).