د.محمد بن عبد العزيز الفيصل
ثقافة.. ارتبط هذا المصطلح العميق بالكثير من المفاهيم الحضارية، إلا أن حضوره الدارج والكثيف كان سببًا وجيهًا لابتذاله؛ وتعويم المفاهيم الأساس التي يعتمد عليها في تكوين بنيته، وتجسيد هويته، كما أن التباين الكبير الذي تبديه مؤسسات المجتمع المدني في تعاطيها مع هذا المصطلح نتج عنه الإخلال بمفاهيمه ورُآه الراسخة، فالثقافة أشمل من كتاب، وأسمى من قصيدة، وأبلغ من ندوة!
حملت رؤية المملكة العربية السعودية 2030 في طيّاتها الكثير من الخير لوطننا ولأبناء مجتمعه؛ وفي كل يوم تطالعنا الإنجازات الجبارة في مختلف شؤون التنمية، ومع هذا الحماس المتّقد، والرؤية الطموحة، والعمل الجاد، الذي يطالعنا به أمير الشباب وعراب الرؤية سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز؛ يتطلع أبناء وطننا الأَبي إلى تحقيق أهداف هذا الحلم الذي أصبح هاجسًا حيًّا لكل مواطن يُعايش هذه القفزات التنموية التي يسجل بها وطننا حقبة جديدة، عنوانها الثابت كما سطّره الأمير خالد الفيصل: «ارفع رأسك أنت سعودي».
لم تغب الثقافة بمفاهيمها الأساس، ومقاصدها الشمولية؛ يتسنّمها نهضة المجتمع والرُّقي به، عن رؤية الوطن لتصفها بأهم مُقوّمات جودة الحياة، والأهم من ذلك أيضًا تأكيدها أن الفرص الثقافية المتاحة لا ترتقي إلى تطلعات المواطنين، فالواقع الثقافي لا يواكب الوضع الاقتصادي المزدهر الذي تعيشه المملكة، وعندئذٍ ستتحول الثقافة من كونها عبئاً اقتصادياً إلى عنصر فعّال في دعم الاقتصاد الوطني وتطويره.
هذه المعالجة الصريحة التي نصّت عليها الرؤية فيما يتعلق بالجانب الثقافي؛ بداية حقيقية للبحث عن مكامن الخلل ومعالجتها وهذا ما لمسناه عبر القرارات الجريئة التي اتخذتها القيادة الحكيمة؛ بداية بإنشاء الهيئة العامة للثقافة في الثلاثين من شهر رجب عام 1437هـ، وانتهاءً بتخصيص وزارة للثقافة بعد فصلها عن وزارة الإعلام في الخامس والعشرين من شهر رجب عام 1438هـ! فكانت خطوات جريئة وبناءة، من شأنها تطوير الواقع الثقافي بما يتلاءم مع مكانة المملكة؛ إلا أن هيئة الثقافة لم تُحقق أيَّ إنجازٍ يذكر منذ إنشائها مع أنها أتمت عامها الثالث في شهر رجب المنصرم! بينما تتزاحم إنجازات وزارة الثقافة لتجعلها في طليعة المؤسسات الحكومية الصاعدة والواعدة.
إن النجاح الكبير الذي حققته وزارة الثقافة، حَفّز المهتمين بالجوانب الثقافية على دعم الوزارة وتشجيع مشاريعها الطموحة التي من شأنها خَلق واقع ثقافي مزدهر وبنّاء، والأهم من ذلك أن يكون المثقفون منفتحين على الآخر ومرحبين بثقافته ومؤمنين بأن التبادل المعرفي جزء حيوي من شأنه تطوير الجانب الثقافي، وسبب لزيادة اتصالنا بالثقافات الأخرى، وهذا مطلب مهم من شأنه إبراز صورة المملكة الناصعة، والتأكيد على مبادئ التسامح والسلام التي تبنتها المملكة واستقتها من أصول الشريعة الإسلامية السمحة؛ فثقافتنا تستمد قوتها من هذه القيم العالية وهي خير من يمثلنا أمام العالم، وهذا العنصر الفعّال من صميم الأهداف الرئيسة التي أعلنتها وزارة الثقافة في السابع والعشرين من شهر مارس لهذا العام، عندما حددت رؤيتها وتوجهها في ثلاثة أهداف رئيسة منها: «الثقافة من أجل تعزيز مكانة المملكة الدولية».
حققت وزارة الثقافة بقيادة أميرها الشاب المبدع بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، العديد من التطلعات التي كان المهتمون بالجانب الثقافي ينتظرونها بشغف، ولعل ما تحقق من إنجاز في هذا الميدان نتيجةً حيّة لاستراتيجية بنّاءة يعمل بها سمو وزير الثقافة الذي يرى أن استمرار العمل من أجل تحقيق الأهداف؛ أحد أهم أسباب النجاح يقول في هذا السياق: «نريد خلق بيئة تساهم في نمو هذا الإبداع، ومن أجل هذا تم إنشاء وزارة الثقافة، إن تطوير النظام الثقافي وتمكين قطاع الثقافة من تحقيق إمكاناته، هي عملية بناء مستمرة، وليس حدثاً يتم إنجازه لمرة واحدة، ندرك حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الوزارة ونعلم بأن الأهداف كبيرة ولا يمكن تحقيقها بين عشية وضحاها، لكننا ملتزمون بهذه المهمة، وقد صممنا رؤيتنا وتوجهاتنا لإزالة المعوقات، والحد من البيروقراطية، وتمكين المبدعين من ممارسة إبداعهم، سنصدر ثقافتنا المعتدة بتاريخنا وإرثنا وتقاليدنا العريقة إلى الأمم، وسنشرّع أبواب المملكة للثقافات الأخرى، في عملية تلاقي وتبادل ثقافي إنساني».
إن هذه القناعة المتجذر بضرورة تجسيد الثقافة السعودية وتأسيسها لتكون خير من يمثل الوطن في المحافل الخارجية؛ هي الوقود الذي لا يَنضب، والمحرك الأساس لكل المشاريع الثقافية التي تُمثل رافدًا قويًا للجوانب الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والتنموية؛ فالثقافة عُنصر فعّال من عناصر البناء الحضاري، ولا يمكن أن تتم نهضة الوطن إلا عبر نافذتها المشعة.
ومن منطلق تحديد المهام وتكوين الأطر، والانطلاق بقوة لتنفيذها؛ اختارت وزارة الثقافة ستة عشر قطاعًا فرعيًا لتكون ضمن رؤيتها وتوجهاتها، وتتمثل هذه القطاعات في:
المسرح، الفنون الأدائية، الموسيقى، الفنون البصرية، المتاحف، المواقع الثقافية والأثرية، التراث، المهرجانات والفعاليات الثقافية،
الكتب والنشر، العمارة والتصميم الداخلي، التراث الطبيعي، الأفلام والعروض المرئية، الأزياء، اللغة، الطعام وفنون الطهي،
الشعر، المكتبات.
ولادة متعسرة لقناة ثقافية
لكم أن تتخيلوا أن هذه المجالات المتنوعة بما تضمّه من فعاليات لا حصر لها، لم تُخصص لها قناة تُعنى بفعالياتها، التي تغضّ الطرف عنها القنوات السعودية ولا تُغطيها إلا استحياءً، ولكي أكون أكثر دقةً ووضوحًا لابد أن أشير إلى تلك القناة الثقافية الوليدة التي بزغت إلى الساحة دون إمكانيات تُذكر، ولم تحظَ بالدعم الذي يتناسب وأهمية الرسالة التي تحملها وما تَبثّه، وما هي معنيّة به، ومع كل هذا وذاك فرح بها معشر المثقفين، واستبشروا بوجودها خيرًا، ومن الأمانة في الطرح أن أشير إلى بعض هذه ملابسات، لألقي الضوء على تفاصيل ظهور هذه القناة التي وُلدت مع أربع قنوات فضائية جديدة كبرت هذه البراعم واشتد عودها إلا أن صاحبتنا وُئدت دون سبب! وفق ما أعرفه على أقل تقدير، وقد تكون هناك أسباب لا أعلمها أنا وبقية المهتمين بالشأن الثقافي إلا أنه لم يصدر من هيئة الإذاعة والتلفزيون أيُّ بيان يُسبّب لهذا القرار الذي صَدم الكثير من أبناء المجتمع، وبقيت الثقافة دون قناة، مع تقديري للجهود المباركة التي تَبذلها هيئة الإذاعة والتلفزيون والتي كان من آخرها إطلاق قناة «السعودية مباشر»، فمن باب الإنصاف أن أشيد بجهودهم المثمرة، وكنت أتمنى لو استمرت الثقافية بالصدور وأحيل الإشراف عليها إلى وزارة الثقافة، كما هو الحال مع القنوات الرياضية التي تولت الإشراف عليها الهيئة العامة للرياضة، وقد يكون هذا الإجراء أفضل من حجبها دون سبب!
ما يؤلم في إيقاف القناة الثقافية أنها قناة مَعنية بإبراز هويتنا وتراثنا، ولم تُمنح الفرصة الكافية لتطوير نفسها؛ فالتضحيات المبذولة في تأسيسها كبيرة! فليس من السهل أن تُنشأ قناة وليدة لتهتم بهذا المكون الفكري المتنوع لتعكس هويتنا وتراثنا اللذين نفتخر بهما، فالعناية بهما مطلب وطني لأنهما خير سفير لهذا الوطن وأبنائه وبناته، في وقت نحن بأمس الحاجة إلى تمثيل المملكة في المحافل الدولية، تمثيلاً يليق بالقيم والمبادئ الراسخة التي قام عليها هذا الكيان العظيم.
ما لا يعرفه الكثير عن قناتنا الثقافية «الموءودة» أنها القناة الأولى في المملكة، والثانية في العالم العربي المعنية بهذا الشأن المُهم، الذي زادت أهميته مع إطلاق الرؤية ومِن ثَمّ إنشاء وزارة الثقافة!
تولى زمام تأسيس هذه القناة الفتيّة صاحب العزيمة المتقدة الأستاذ: محمد الماضي، الخبير الإعلامي الذي قضى سنوات حياته في خدمة القنوات السعودية، ومن المفارقات الإيجابية في سيرت الماضي الذي كُلف بالإشراف على الثقافية بعد إطلاقها بثلاثين يومًا، أنه أول من اقترح تأسيس إدارة للبرامج الثقافية في القناة الأولى التي كان نائبًا لمديرها، حيث كُلف بعد اقتراحه الوضّاء بإنشاء إدارة للبرامج الثقافية وتأسيسها، فكانت الثقافة بالنسبة إليه تَحدٍّ وحُلمًا قبل أن تكون عملًا أوكل إليه.
واجهت الثقافية تحديات متعددة وشائكة؛ في مقدمتها الصورة النمطية المسيطرة على أذهان المجتمع عن الثقافة وبالذات نظرة الصحوة إليها، فكان لزامًا عليها القيام بعمل غير نمطي وبعيد عن التقليدية؛ يوازي ذلك جهداً بنفس هذه المواصفات لكسب ذائقة المشاهد، في وقت يشهد فيه الفضاء مئات القنوات التي تتسابق لخطف أنظار المشاهدين، والاستحواذ على شاشاتهم.
هل كسب الرهان مطعم الثقافية؟!
دخلت الثقافية الفضاء بكوادر ضعيفة، وإمكانات محدودة، فمن كان يصدق أن هذه القناة الجديدة استطاعت أن ترتقي بذائقة المتلقي وذوقه، وهي لا تملك «استوديوهات» خاصةً بها، هذا ما لحظته عبر استضافاتي في القنوات السعودية ومن ضمنها الثقافية التي تَبثُّ برامجها من «استوديوهات» القنوات السعودية الأخرى: «الأولى، الإخبارية...»، التي كان من المفترض أن تكون مشغولة ببرامجها الخاصة، وهذا ما دفع إدارتها إلى استثمار المساحات الفارغة في مطعم التلفزيون ليكون «استوديو» خاصًا بالقناة، أما عربات النقل التلفزيوني المخصصة لبث الفعاليات الخارجية فلم يكن للثقافية نصيب منها إلا بعد شِق الأنفس كما وصف ذلك الأستاذ: محمد الماضي في كتابه: «التحدي-سنواتي في القناة الثقافية، الذي كشف عبره هذه الصعوبات التي واجهته في تكوين القناة، فالكتاب أشبه ما يكون بسيرة ذاتية للقناة الثقافية المرحومة!
سأختم المقال بالتساؤل الوجيه الذي كان ولا يزال عالقًا في أذهان متابعي القناة من الوسط الثقافي وغيرهم، هل الثقافية قناة للنخبة؟
وللإجابة عن ذلك أقول: إن القناة نجحت في تكوين أُطر غير مرئية للمفهوم العام للثقافة لتردّ على من يحصرها داخل إطار الأجناس الأدبية، وبالفعل نجحت القناة في تكوين هذه الرؤية لمفهوم الثقافة وأُطرها العامة التي نتج عنها إنتاج هذه الرؤية، ومن ثم تثقيف أجيال المجتمع الواعدة بتراثهم وثقافتهم وهويتهم التي يباهون العالم بها.
هل ستعود القناة الموءودة يا أمير الثقافة؟!
بعد الغياب القسري للقناة الثقافية، لم يغب هذا السؤال عن أذهان المشاهدين من المهتمين بالشأن الثقافي وغيرهم، هل ستعود هذه القناة بحلّة جديدة، لِتُبثَّ بلغات متعددة؟
إن الأمل يحدوه الأمل في تفاعل أمير الثقافة وفارسها الأمير بدر بن عبدالله الفرحان، مع هذه الطموحات، فسموه جعلنا نعيش داخل عرسٍ ثقافي بهيج لن يكتمل إلا بالحضور الإعلامي الرصين الذي يواكب هذا العمل الجبار الذي تقوم به وزارة الثقافة، فهل ستعود القناة الثقافية يا سمو الأمير؟