م. بدر بن ناصر الحمدان
نشأت الحياة في المدن القديمة على مبادئ عدة، من أهمها «التعايش» بين سكانها، و»التكامل» في مظاهر الاجتماع الإنساني؛ وبالتالي انعكس ذلك على تركيبتها التخطيطية والعمرانية والمعمارية لتلبية متطلبات «الخصائص البشرية» تلك، وتهيئة الأماكن التي تعزز من استمراريتها، والإيفاء باحتياجات أفرادها؛ إذ كان هذا «الاندماج» عنصرًا أساسيًّا في بناء النسيج الاجتماعي وما يرتبط به من «قيم» و»ثقافات» و»علاقات»، ساهمت في تأسيس جل الحضارات التي مرّت عبر التاريخ.
«ما عاد نشوف أحد».. كانت تلك إجابة عفوية، وبلهجة محلية من أحد كبار السن الذين قابلتهم، وسألته عن حاله وأحواله، يقول إنه لم يعد يلتقي الناس، ويعيش عزلة كبيرة، ويطرح تساؤلاً حرجًا حينما يردد بصوته المنكسر «والله مدري وين الناس اختفوا»، مستذكرًا حياته السابقة التي قضاها بين هؤلاء الناس، وواصفًا إياها بقوله «منول، ما تفقد أحد». وعن وظائف المكان معبرًا «العيّر والمجابيب كانت مليانة من هالصغار، والمشراق ما تلقى لك فيه محل». مردفًا هذه الحيرة التي يعيشها باستنتاج «كلن صد، لكن الله يصلح الحال».
لعل هذا المسن لا يعلم أن الناس لم تختفِ، لكنهم تواروا، وحجبوا، ومنعتهم المدن الحديثة بتركيبتها الإقصائية من أن يلتقي أحدهم الآخر بعد أن غاب الفراغ العمراني «الموظف»، وغاب معه الناس، واختلفت معايير العمران، وهيمنت الحيازة الخاصة على الأراضي، وسيطرت السيارة على مناطق المشاة، وبنيت الجدران العازلة، وفقد المسجد وظيفته العمرانية، واندثر وسط المدينة، وانعزل الناس داخل منازلهم الكبيرة، ولم يعد ثمة أمل للقاء، حين تحولت المدن إلى حيزات انفرادية، يقضي الفرد بها عقوبة «المدنية» بتركيبتها المشوهة.
على سبيل المثال، كثيرًا ما نتساءل عن سر اهتمام سكان المدن السعودية المطرد في السنوات الأخيرة بقضاء أوقات طويلة في محال الكوفي شوب والمطاعم، والتردد على أماكن الفعاليات والأسواق والحضور حتى في ساحات التجمهر. إنهم يبحثون عن «بعضهم البعض»، يريدون أن يتحرروا من الجدران العازلة، يفتشون عن مظاهر الحياة المفقودة، يطمعون في ممارسة بشريتهم بطبيعتها، وبتلقائية غير مصطنعة.
ما زلت أتذكر في زيارة سابقة لمدينة فلورانسا القديمة في إيطاليا مع مجموعة من المتخصصين في تخطيط المدن، حيث كنا نتناول القهوة في ساحة «الدومو» وكيف استأثر حديث الجميع عن دور الساحات العمرانية في تطوير نمط الحياة ، وأن تحليل الوظائف العمرانية لهذه الأماكن يمنحها درجة عالية جدًّا من الأهمية على مستوى المدينة باعتبار انها تمثل «قلوب» المدينة؛ إذ يجتمع الناس فيها بكل أجناسهم، وأعمارهم، وأعراقهم، وطوائفهم، واهتماماتهم المختلفة. يلتقون، ويتعارفون، ويتحدثون، ويتسامرون، يخرجون من عزلتهم إلى فضاء يعج بالحياة.
يمكنني القول إن مدننا الحديثة قد نجحت في بناء إمبراطورية من الخرسانة، وترسانة من البنية التحتية، لكنها ساهمت بنمط تخطيطها «اللا إنساني» في تفكيك نسيج المجتمع، وباعدت به الخطى؛ لذلك فإدارتها بحاجة إلى عمل كبير لخلق «أماكن المصادفة» ، والعودة من جديد للمدن والقرى والأحياء التراثية القديمة للاستفادة من فلسفة تخطيطها وعمارتها، و»كيف تصنع فيها الحياة»، وكيف يمكّن الناس من ذلك «التعايش» الذي فقدوه فترة طويلة من الزمن. لم يعد هناك متسع من الوقت لخوض تجارب عمرانية جديدة، الحكاية أسهل مما نتخيل، فقليل من الأرض يكفي لكي نلتقي.