د.عبد الرحمن الحبيب
بعد انتصار الثورة الصينية (1949) بدأت مرحلة جديدة من علاقات حميمية بين الصين والاتحاد السوفييتي، إذ دعم السوفييت الثورة الوليدة بكل الإمكانات، حتى بدت الصين وكأنها تابعة لهم، لكن لم تمض عشر سنوات حتى تدهورت العلاقات مجدداً وتوقفت على إثرها المعونات السوفييتية، وحدثت عام 1960 قطيعة إيديولوجية بينهما، كل منهما يرى أنه يمثل الشيوعية العالمية خاصة بعد التوجهات السوفيتية بإدانة عبادة الفرد المتمثلة في شخصية ستالين مما أثار استياء ماوتسي تونج الذي كان يقود بلاده بنفس الأسلوب. وبالتدريج تصاعد التوتر بين البلدين، خصوصاً بعد الدعم الروسي للهند في حربها الحدودية ضد الصين عام 1962، إلى أن وصل التدهور في العلاقات لمواجهات عسكرية على الحدود بين الدولتين عام 1969.
في خضم هذه الأجواء اقتنصت أمريكا هذه الفرصة أثناء حربها الباردة مع الاتحاد السوفييتي؛ حين قام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام 1972 بزيارة جمهورية الصين الشعبية، بخطوة تاريخية لتطبيع العلاقات بين البلدين بعد انقطاع وعداء دام 25 عاماً بسبب الحرب الكورية، والدعم الأمريكي العسكري لجمهورية الصين الوطنية (تايوان)، والدعم الصيني السوفيتي لجمهورية فيتنام الشمالية الشيوعية.
الآن انقلبت المعادلة السياسية، ففي أجواء من التوتر بين الولايات المتحدة من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، قام الرئيس الصيني بزيارة لروسيا، ورغم أنها الزيارة الثامنة له منذ 2012، لكنها تمثل ذروة تقارب العلاقات بين الصين وروسيا؛ ففي هذه الزيارة تبادل الرئيسان أثمن عبارات الصداقة، وقعت خلالها 30 اتفاقية تعاون بين البلدين، حتى إنه ظهرت دعوات من بعض الروس إلى إنشاء حلف عسكري.. فإلى أين ستتوجه هذه العلاقات سياسياً وعسكرياً واقتصاديا؟
من الناحية السياسية، فالعلاقات بين البلدين تشهد انسجاماً واضحاً منذ سنوات، فمواقف البلدين في هيئة الأمم المتحدة، خاصة بمجلس الأمن، غالباً ما تكون متطابقة أو متقاربة، وكلاهما تدعوان إلى عالم متعدد الأقطاب. وهناك تعاون مشترك ضمن إطار منظمة تعاون شانغهاي، إضافة إلى تبادل مكثف للفعاليات الثقافية والتعليمية والرياضية والاجتماعية بين البلدين.
أما من الناحية العسكرية، يُستبعد عقد حلف عسكري، فالصين لم تعترف بانضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا، بينما لا تؤيد روسيا مطالب الصين بالجزر المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي وبحر اليابان. كما أن توجه البلدين لم يقترب من أية إشارة لحلف عسكري، إذ قال الرئيس بوتين: «لسنا في تحالف عسكري مع الصين. نحن حليفان استراتيجيان، لا نعمل ضد أحد، نعمل لصالح أنفسنا وصالح شركائنا لا نسعى لأن نحل محل أحد».
من الناحية الاقتصادية، وهي الأهم، فالصين ترى في التعاون مع روسيا مجالاً لتعزيز نموها الاقتصادي وتوسعه لمواجهة الضغط الأمريكي، فيما ترى روسيا في الصين مخرجاً لغازها ونفطها مع تزايد المنافسة في السوق الأوروبي. لكن لا يبدو أن لذلك أهمية اقتصادية عظمى، فكما ذكر ويلي لام (جامعة الصين، هونغ كونغ) فالاقتصاد الروسي صغير للغاية بالمقاييس العالمية بالنسبة للصين؛ فنسبة 1.9% فقط من الصادرات الصينية، تذهب إلى روسيا.
وفي الوقت الذي يرحب بعض الروس بهذه العلاقة الاقتصادية فإن بعضهم يحذر من أن تُصبح روسيا للصين كما كندا للولايات المتحدة الأميربكية، لأن «استمرار التطور والتنمية الحالية للصين اقتصادياً وعسكرياً سيسمح لها بخلق أحادية قطبية اقتصادياً حيث ستصبح بعام 2025 أكبر دولة اقتصاديَّة مع اقتصاد يبلغ ما يعادل مرة ونصف اقتصاد الولايات المتحدة، وأحادية أخرى عسكرية بعام 2050 مع استراتيجية عسكرية تطمح لخلق ماكينة عسكرية تحمي هذا الاقتصاد». حسب البروفيسور جاسم عجاقة.
ومن هنا ذكر الكاتب الروسي غيفورغ ميرزايان، في «فزغلياد» الروسية، عن احتمال عودة الروس للتفكير في خطورة الصين، وذلك لسببين. الأول هو أن التقارب الجديد بين البلدين هش يقوم على معاداة الولايات المتحدة، فإذا تحسنت العلاقة بين الصين وأمريكا قد تعود الصين لخطها المنفصل. الثاني إمكانات التعاون محدودة جغرافياً، فكل من روسيا والصين تنظران باتجاهين مختلفين.. روسيا نحو الغرب، والصين نحو الشرق، وقد يؤدي ذلك لمصالح متنافرة تفسد العلاقات بين البلدين.. وفي روسيا سيقولون مرة أخرى إن التنين الصيني قد يكون أكثر خطورة بكثير من النسر الأمريكي، حسب ميرزايان.
الخلاصة، أن هذه الزيارة وما شملته من اتفاقيات بين البلدين تُكسب علاقتهما مزيداً من التقارب وتطوراً استراتيجياً للعلاقات الدولية، بحثاً عن توازن عالمي جديد متعدد الأقطاب. وبطبيعة الحال، فهذا التقارب لن يلقى ترحيباً من الولايات المتحدة وبعضاً من حلفائها الغربيين، وليس سرَّاً أن استراتيجيتي الأمن والدفاع القومي الأمريكيتين لعام 2018 تشير إلى الصين وروسيا كأكبر تهديد للمصالح الامريكية. ومن نافلة القول ما ذكرته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، «الولايات المتحدة ستحاول بذل كل ما في وسعها لإضعاف العلاقة بين موسكو وبكين. وستضع كل شيء على المحك لتحقيق ذلك». إلا أن ما هو على المحك فعلاً يتمثل في طبيعة العلاقة بين الصين وروسيا، خاصة الجيوسياسية فالتجارب التاريخية تشير إلى أن الدول المتجاورة التي تجمعها حدود مشتركة لن تكون علاقاتها ودية ولا سيما إذا كانتا من الدول العظمى.