د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
لغتنا العربية وفيرة غنية، أصّلَ القرآن الكريم عبقرية الاستخدام في بنائها فتشرّف العرب بنسبتهم إليها، قال تعالى مؤكداً الانتساب للعربية (بلسان عربيّ مبين) الشعراء 193، فهي لغة جامعة لكل الانتماءات، يعلوها الدين ثم الهوية العربية الإسلامية، ولذلك فاللغة بقيتْ جزءًا أصيلاً من الحضارة البشرية؛ فالحاجة اليوم ماسة جداً إلى الولوج إلى أعماق لغتنا الخالدة؛ ومراياها العاكسة لنتمكن من التفكير بطرائق استثمارها معرفياً واقتصادياً، ومع كثرة الطروحات حول اللغة العربية، والمباهاة بالاحتفاءات بأيامها والتعريف بها من خلال منابر اليوم؛ فمازلنا نتساءل ما الذي يمكن عمله لصياغة التأثير المقبول استباقاً للتأثير المحتمل للغتنا الأم لغة ديننا وعقيدتنا حتى تصبح وسيلة تواصل من أجل تأصيل الهوية، ووسيلة تواصل من أجل التنمية، ووسيلة تواصل من أجل الفن القولي الجميل المقنع، ووسيلة تواصل لإبراز الفنون التشكيلية المبهرة، ووسيلة تواصل مجزية مع غير الناطقين بها ليسترفدوا جانبها! وحتى لا تستبد بي الحاجة إلى الحنين إلى خيمة الأصمعي ورواق سيبيويه لأنه لا يساورني شك في ثباتهم مع مائنا اليوم وهوائنا غداً، فلابد من الاستثمار اليوم في تطوير التلقي اللغوي في مدارج التعليم بمراحله المختلفة فالمسميات والمقررات الماثلة أمام الطلاب اليوم يحتم الحال والواقع انعتاقها مما غيّبَ عنها الوهج وأوهنَ واقع التلقي خلالها، فيلزمنا الاستثمار في تعصير اللغة العربية لكون ذاك استثماراً لبناء مستقبل الأجيال، فالشعوب بلغاتها! فتلكم دعوة لعلماء اللغة وأساطينها لتبني مشاريع علمية من أجل إلحاق اللغة العربية بركب حياة أجيال اليوم, وأجزم أن الحاجة ملزمة اليوم إلى صياغة مفهوم جديد لمناهج اللغة العربية التعليمية من خلال لجان متخصصة تهتم بالنص التعليمي، وتأصيل المفهوم اللغوي من خلال ترقية التأليف في علوم اللغة وتعزيز مكانة المنتج اللغوي العربي ووظيفته في الذهن والذائقة لدعم النشء بمواد قرائية نافذة، وتحويل المنتج القرائي إلى برمجيات إلكترونية؛ تناسب واقع العصر, ولي في التكنولوجيا القرائية وقفة؛ فأنا لست مع قرطسة الواقع ثم الحكم عليه؛ فالمعجم المتوافر تقنياً أمام الأطفال في واقع اليوم على سبيل المثال يحيطه قدر كبير من الانغلاق وصعوبة الفهم للمعنى والدلالة كما تشوبه ركاكة في التركيب، وتبديل وإنزال بعض الألفاظ في غير مواضعها؛ وقد يتفاجأ الفل بتوليد بعض المفردات تعسفاً للإتمام فحسب! فلا بدّ من مراجعة وتمحيص للمحتويات! كما أنه لا يمكن للمتعلمين خاصة في مراحل التأسيس أن يتآلفوا مع الدلالات الثقافية الحديثة، إلا إذا كانت بيئتهم التقنية وافرة ومحفزة, فكما نعلم أن الواقع جعل لمفردات الثقافة في تكنولوجيا المعلومات مسميات حديثة, فآثرها كصناعة، ثم إن اللسان العربي، قائم على صوت الحرف, وتحكمهُ قواعد اللغة, وبساط أولئك المتعلمين أرض قاحلة في واقعهم، فالقواعد في لغة التقنية تنتج ثم تستخدم, أما قواعد النحو فتستخدم ثم تستخلص منها القاعدة، والأخيرة أوضح عند النشء الذين يسمعون العربية منذ ولادتهم من أفواه المحيطين وإن..
«سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى
لعاب الأفاعي في مسيل فُرات»
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة
مشكلة الألوان مختلفات»
وإن ركزنا القول في المقررات التدريسية للغة العربية المنفذة في التعليم العام, فلا يمكن اتساقها مع أهدافنا لتأصيل اللغة العربية إلا إذا ظهرت الكلمات مشابهة للأشياء؛ حيث يقرنُها فكر المتعلم في تلك المراحل عندما تكون علامات مرئية تشير إلى كلمات, أو تحيط بواقع ممارس؛ لأن واقع المقررات الحديثة واقع يخلو من الشبه البيئي والمجتمعي، ومن الخيال النامي المؤصل للقراءة الناقدة الإبداعية؛ وحتى تتحوّل تلك المقررات إلى بيوت أكثر اتساعاً بدلاً من ضيق الأفق وبُعد المشاهدة التي تغلفها إلا من نزر يسير من المقتطفات فلابدّ من حزم ذلك الرأي المتواضع وإحاطته بالعنق.
وختاماً.. فإن عشق اللغة العربية يحيطنا بوهجه؛ ونترقب معها القادم الجميل الذي يحمل القرار الأبدي بأنّ اللغة العربية صوت هويتنا وكتابنا المبين, وأنّ في الحدب عليها قوة، واسترداد ملامح مُثلى وسط الهويات المصنوعة؛ كما أن كل ذلك يجعلنا نتذكر أن التاريخ علّمنا أنّ الحضارات هي من تعكس بريقها على محيط أصحابها وألسنتهم, وصواب نطقهم، إلا أن اللغة العربية هي من عكست بريقها على حضارتنا الممتدة.