د. حمزة السالم
السوق من خلق الله، خالق كل شيء، فاقتصاديات السوق هي النواميس والسنن التي سخرها الله سبحانه لتحكم السوق، فاقتصاد السوق لا يختلف عن جسم الإنسان، فكلاهما يسير على سنن كونية ثابتة.
فما نظريات الاقتصاد، إلا ملاحظة لسلوك المجتمعات في أسواقها، ثم تشخيص ظواهر تظهر في ذلك السلوك، ثم الربط بينها بمنطق صحيح وبشواهد سابقة. وبتطور الرياضيات، صار الإثبات الرياضي للعلاقة بين الظواهر المتباعدة، هو الحكم الفصل في صحة منطق النظرية من عدمه. ولهذا دخلت الرياضيات في الاقتصاد، فصار يُدرس وكأنه موضوع رياضي لا اجتماعي سلوكي، وخاصة في الدراسات العليا.
والسوق كالإنسان، قد يمكننا علاجه، وقد نستطيع دفع الإنسان للعمل فوق طاقته بالمنشطات ونحوها، ولكن لفترة محدودة لا تخلو من تبعات، ثم لا يلبث أن ينهار. وقد نستطيع تجميل الوجه بحدود ضيقة، مع احتمالية وقوع مضاعفات قد تكون خطيرة. وقد نجري عملية جراحية معقدة لاستئصال مرض خطير أو إصلاح عضو ما، فتنجح العملية أو تفشل. ولكننا لا نستطيع مطلقا تغيير ديناميكية عمل جسم الإنسان فنعطِّل القلب أو نبدِّل الدم بالماء أو نغيِّر اتجاه الدم. ولا نستطيع مطلقاً التدخل في عمل الأعصاب والمخ إلا في حدود ضيقة وبمخاطر عالية. وهكذا هو السوق واقتصادياته.
لذا فأفضل الطب ما يتعامل مع سنة خلق الله للجسم، ليعيد الجسم لأصل خلقه إذا تغير عنه بسبب خارجي أو داخلي، دون أي تصادم مع الأنظمة التي خلقها الله لتنظم جسم الإنسان، وكذلك هي أفضل السياسات الاقتصادية. فلا يخرج مجتمع اقتصادي عن سنة الله في خلقه «السوق»، إلا ويمرض اقتصاده ويتدهور، إلى أن يتعطل ثم ينتهي إلى الفشل عاجلاً أو آجلاً.
وعقل السوق هو الإنتاج، وتركيبة العقل أو ثقافته هي نوع الإنتاج (زراعي، مالي، صناعي، رعوي، حربي)، فالإنتاج هو العقل الآمر الذي يتحكم في السوق وأنظمته.
وقلب السوق هو السعر، ودماؤه - التي تحمل الغذاء والأوكسجين - هي السيولة (مهما كان نوعها نقداً أو مقايضة)، والإخلال بالسعر أو احتكار السيولة - كتصنيفها بالربا مثلاً بطلانا وخطأ -، يحرف اتجاهات العرض والطلب عن الاتجاهات التي خلقها الله عليه، فتختنق دماء الاقتصاد - وهي السيولة - في شرايين وتطفح في أخرى، فيأكل السوق بعضه بعضاً، فيسقط بعض جلده فينكشف داخل الجسم للجراثيم، بينما يغلظ جلد بعضها الآخر وتتضخم حتى تصبح عقبة تمنع الأنظمة والأعضاء من العمل.
والأنظمة الأساسية للسوق نظامان هما : نظام زيادة العرض مع زيادة السعر، وعكسه، ونظام انخفاض الطلب مع زيادة السعر، وعكسه. وأعضاء السوق الطلب والعرض، ولحم السوق، هما المستهلك والمنتج.
والحكومة هي عظام السوق، الذي لا يقوم إلا به. ويمكن أن يوجد اقتصاد هزيل بلا حكومة، كالاقتصاد الرعوي المحض البسيط، أو الزراعي المحدود، كما أنه يُمكن أن يُولد إنسان مشوه بلا عظم، ولكن يستحيل وجود سوق قوية ومتعافية، بلا وجود دولة نظام وأمن. وكلما تقدم إنتاج السوق زادت حاجته إلى الدولة.
ونظام المناعة في السوق هو الشفافية وحرية الرأي والصحافة، فهي حصن السوق من هجوم الأمراض عليه، كما أن المناعة حصن الجسد من الجراثيم.
والسوق لا بد أن يمرض ويتعافى، فالحي لا بد أن يمرض ويتعافى ما لم تكن الأمراض مستعصية، كالسرطان، والسرطان أنواع منوعة، وأخطر سرطانات السوق وأكثرها انتشاراً هو سرطان الفساد، وهناك سرطان النفط وما شابهه من ثروات المصادر الطبيعية، وكما أن السرطان، يدمر أنظمة الجسم وأعضاءه مهما حسن تمام الأعضاء وكمالها، ومهما ارتقت أنظمة الجسم في فعاليتها، فكذلك أمراض الاقتصاد المستعصية تدمر أركان السوق وأنظمته مهما ارتقت هذه الأنظمة، وكما أن الخلايا السرطانية موجودة في الإنسان ولا تؤثر عليه إلا إن تزايدت، فكذلك الفساد لا يخلو منه سوق أو اقتصاد قط، فطلب المثالية من المُحال ولكن القصد في كل أمر مطلوب.